قصة غراب جاء يشكو همَّه !
بقلم / شمعون كوسا ..
الأربعاء 09 ـ 03 ـ 2016
خرجت في نزهتي اليومية ..
لم أحاذِ النهر هذه المرّة لأني كنت قاصداً صرح قلعة شاهقة شيّدها بُناتُها منذ قرنين وسط غابة جميلة .
ولكي لا اطيل على من يتربص بيّ ليقول :
ها قد أتى صاحبنا من جديد ليبدأ وصفاً لا ينتهي عن الربيع والزهور والاشجار والمياه والكلام الفارغ !!
اتخذت مقعدي فوق صخرة كبيرة وبدأت أنظر الى الغابة وما حولها .
كنت اراجع ذاتي واستعرض ما سمعته وما قلته وما رأيته وما فعلته ، واعيد التفكير فيها وأتوقف
احيانا للحظات تأمل ، عملية تريحني حقّاً . كنت منزويا مع نفسي محاطا بالطبيعة
في جوّ ليس فيه مكان لغير النقاء والصدق والجمال .
كنت في الدقائق العشر الاولى من خلوتي عندما ابصرت غرابا قادما من بعيد .
استقرّ قليلا على شجرة قريبة وتركها وتحول من شجرة الى شجرة .
وأنا منشغل بمتابعة طيرانه رأيته وإذا به قد حطّ ّ بالقرب منّي .
لم استغرب كثيرا من هذه الزيارة لأنه سبق لي وأن التقيت الغراب قبل سنوات ،
ودار بيننا حديث طويل . رأيت الغراب يحدّق بيّ وكأنه يدعوني لاستجوابه ،
فقلت له : ما الذي اتى بك هذه المرة ، أتحمل لي رسالة ام انك تشكو من همّ شخصي ؟
حاول الغراب ان يرسم ابتسامة مجاملة ولو خفيفة على وجهه ، ولكنه لم يفلح ،
فقال : لقد اتيتك فعلا أشكو حالي في قصة عشت احداثها هذه الايام .
لقد اتيتك لأسرد لك قصتي طامعاً بمشورتك .
إن رأيك يهمّني ، لاسيما بعد أن تابع زملائي الطيور قصتي بشوق واهتمام .
قلت له : لقد شوّقتني أنا أيضا لسماع قصتك ، يا غراباً ذاع صيت بني عشيرته بتجمعهم
فوق الاشجار للتشاور، بدأ الغراب قائلا :
كنت أُمضي ايامي في غابة غير بعيدة من هنا في حياة هادئة هانئة ، غير أن الصدفة
قادتني يوماً للقاء إوزّ كبير ابيض اللون ، بل ناصع البياض ، لم يسبق لي وان صادفت لوناً
بهذا الصفاء ، أثار الاوز اهتمامي وبدأتُ افكر فيه وانظر الى نفسي ، واستعيد بياضه من جديد ،
تكدّرت نفسي وانزعجت وحتى بصقت على نفسي قائلا :
وهل انا استحق العيش بهذا السواد القاتم الذي يلبسني من قمة رأسي الى اخمص قدميّ ؟
قلت في نفسي :
لا شك ان الاوز هو أسعدُ طير في العالم ، وهنا ، مدفوعا بشئ من الحسد وقليل
من الفضولية ، قمت بزيارة الاوزّ ، وعبّرت له عمّا تساورني من ظنون وشكوك ،
هنّأته على جمال ريشة مؤكدا له بأنه من دون شك اسعد طير في الغابة ، فقال لي الاوز :
أشكرك على مشاعرك ، كان كلامك صحيح ، انا فعلا كنت اعتبر نفسي اسعد طير
في العالم الى اليوم الذي ابصرت فيه ببغاء بلونين جميلين جدا أثارا اعجابي ،
فقلت أنا ايضا آنذاك : لا شك بان هذا الطير اسعد طير في الخليقة ،
وهو على أية حال اسعد مني لانه يرتدي لونين ، عند سماع ما قاله الاوز عن الببغاء ،
حملت نفسي وقصدت الببغاء وعلى العنوان الذي زوّدني به الاوز .
استقبلني الببغاء بعبارات ترحيب ردّدها اكثر من مرة ، كيف لا وهو الببغاء ، واستفسر
عن موضوع زيارتي ، فسردت له قصتي من بدايتها .
صمتَ الطير قليلا ثم قال :
لا تحزن يا صديقي الغراب ، ان تفكيرك في محله ، لاني فعلا كنت احسب نفسي
اسعد طير خلقه الله ، ولكن سعادتي لم تدم كثيرا منذ اليوم الذي التقيت طاووساً .
أنا لا املك سوى لونين ، غير أن الطاووس ، يستقطب العديد من الالوان .
عندما وقعت انظاري لأول مرّة على هذا الطير ، بقيت مبهوتا وتوصلت
الى قناعة ثابتة بان الطاووس هو اسعد الطيور في العالم ، على اية حال هو اسعد منّي .
بعد سماع ما أدلى به الببغاء ، ودّعتُه بعبارات حارة ، ويمّمت شطر الطاووس
لأرى المخلوق الذي احتكر كافة الالوان الجميلة .
قادني العنوان الى حديقة كبيرة مسيّجة بصورة مُحكمة .
رأيت الحيوان من بعيد وقد احاطت به الجماهير فقلت ، فعلا لم يخطئ الببغاء في حكمه ،
دخلتُ الحديقة طائراً ، ودنوت من الطير الجميل ، انحنيت امامه معبرا له عن تقديري واعجابي .
رحب بيّ الطاووس وقال لي : بماذا استطيع خدمتك ؟ شرحت له سبب زيارتي وسردت
له موضوعي من البداية وختمت حديثي بالقول :
لقد تقاطر الناس من كافة الجهات لزيارتك والتمتع بألوانك الرائعة ، يا لحظك السعيد ،
هل تعرف بانه ، خلافا لما يحدث معك ، حال وقوع نظر الناس عليّ ،
يتناولون حجارة ليبعدوني عنهم .
ايها الطير الجميل ، لا شك انك اسعد مخلوق على هذا الكوكب .
هزّ الطاووس رأسه وقال :
انا ايضا كنت اعتقد باني اسعد طير على وجه البسيطة بفضل مظهري وألواني ،
ولكن ألواني هي التي قادتني الى هذا السجن .
انا سجين هذه الحديقة ولا استطيع مغادرتها .
لقد فكرت كثيرا في هذا الامر ، وقلبت الموضوع مراراً بيني وبين نفسي وقارنت
بين الطيور واوضاعها ، وتستغرب من النتيجة التي توصلت اليها ، لاني تيقنت بإنك انت ،
ايها الغراب ، اسعد طير على الارض لانك تكاد تكون الوحيد الذي ليس حبيس هذا الاقفاص .
كم تمنيت ان اكون غرابا لاغادر هذا السجن وانعم بالحرية [ التي هي اثمن شئ لدينا ] ،
وهي الوحيدة التي توفر لنا السعادة .
قال الغراب : تأثرتُ كثيرا بكلام الطاووس
الذي كان يحدّثني والدموع تنهمر من عينيه ، قمت وعانقته ثم قبلته بحرارة ،
وتركته بنفس هادئة ومطمئنة .بعد انتهائه من سرد قصته ، نظر إليّ الغراب وقال :
ما رأيك أنت بقصتي هذه ، وهل ما قاله الطاووس صحيح أم انه مجرد استخفاف بعقلي ؟
قلت له : لقد تابعتُ قصتك بشغف ، وفعلا ما قاله لك الطاووس هو الحكمة بالذات ،
[ الحرية لا تقدّر بثمن ] .
والعبرة العامة هي بانه لكل مخلوق كنز في داخله وله اوصاف ومؤهلات تميزه
عن الاخرين ، وانت تتمتع بامتياز ثمين لم يحصل عليه الكثيرون من زملائك .
قال لي الغراب ، هل لي أن أتجرّأ واستفسر فيما اذا كان هذا ينطبق على معشر البشر ؟
قلت له ان قصتك أعظم درس للانسان قبل ان تكون للحيوان .
على الانسان ان يبحث عن سعادته في ما يملكه هو عوضا عن البحث
في ما يملكه الاخرون وقد لا يوفر لهم السعادة أصلاً .
سوف يكون هناك دوما أناس يختلفون عنا بشتى الامور .
فاذا انبرينا لمراقبة الاخرين ناسين ما حبانا الله به من سعادة ، سننجرّ وراء ما يمليه علينا
الحسد والغيرة ، . وهكذا ننشغل في مراقبة الناس الى ان نموت همّا ،
والحكمة كانت تقضي بان نترك الاخرين لنكتشف السعادة الحقيقية داخل أنفسنا .
وإن ما هو أهمّ من كل شئ هو أن الانسان يتصف بشئ لا يقدّر بثمن
ولم ينعم الله به على الطيور وهو العقل .
عقل الانسان يحتوي الطبيعة بكل ما فيها من منظور وغير منظور،
فالعقل يرى ، ويفكر ، ويخطط ، ويتخيل ، ويبني ، ويهدم ، ويرسم من جديد ويبدع ،
ويغيّر ، ويحذف ويضيف ، العقل كفيل بتوفير ما ينقص الانسان ويمكّنه
من صنع مجد يفتخر به. والانسان العاقل لن يكون سجينا أبداً ،
حتى اذا كان مكبلا بقيود ، لان عقله قادر على فك قيوده .
عندما رأى الغراب انني تحمّست لقصته الى حدّ استخلاص دروس قيّمة للانسان نفسه ،
قال لي : انا اغادر الان مطمئنا وراضيا على لوني الاسود
لاني وجدت سعادتي بشئ ثمين جدا وهو الحرية .