هل الله ظهر في الجسد ؟
بقلم اسكندر جديد :
السؤال الأول :
ما معني قولكم إن يسوع هو الله ظهر في الجسد ، وإن كان هذا
هو اعتقادكم فما حمله على التجسُّد ؟
ف . ك . طرابلس – لبنان
( 1 ) إن أول شيء تعلنه لنا الحقيقة أن النفس البشرية لا تستطيع من ذاتها بلوغ الكمال
الذي تنشده لأن ناموس الخطية لها بالمرصاد .
وقد كشف الرسول لنا هذه الحقيقة ، إذ قال : " إن الإرادة حاضرة عندي ،
وأما أن أفعل الحسني فلست أجد . لأني لست أفعل الصالح الذي أُريده ،
بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل . فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست
بعد أفعله أنا ، بل الخطية الساكنة في . إذا أجد الناموس لي حينما أريد الحسنى أن الشر حاضر
عندى . فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن . ولكني أرى ناموسا آخر
في أعضائي يحارب ناموس ذهني ، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي "
( رومية 7: 18-23 ) .
( 2 ) فكلمة الرسول هنا تقدم لنا وصفا للصراع ، القائم في نفس الإنسان بين النعمة والفساد .
بين ناموس الله الذي يسر به الإنسان ويريد أن يعمل بموجبه ، وبين ناموس الخطية ،
التي تجذب الإنسان وتسبيه ، وتحمله على صنع ما لا يريد .
ولكن الرسول الكريم إذ شاء التحرر من ناموس الخطية والموت أطلق صرخته الداوية نحو السماء :
" ويحي أنا الإنسان الشقي ! من ينقذني
من جسد هذا الموت ؟ "
( رومية 7: 24 ) .
حينئذ تراءى له المنقذ في شخص الكلمة المتجسد فتهلل قائلا :
" أشكر الله بيسوع المسيح ربنا ! "
( رومية 7: 25 ) .
وهذا السر تكشف قبلا لرجل الله أيوب ، حين عجت عليه المصائب والآلام ، غمرا ينادي غمرا .
ومن قلب حاجته إلى وسيط بينه وبين الله قال في شكواه : " ليس بيننا مُصالح يضع يده
على كلينا ! ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه . إذا أتكلم ولا أخافه . لأنى لست هكذا عند نفسي"
( أيوب 9: 33- 35 ) .
فتجسد الأقنوم الثاني لله ، كان إذا حاجة الإنسان الملحة ،
ليفتديه ويرجعه إلى إلهه ويصالحه معه.
( 3 ) كل إنسان يعرف من اختباره الشخصي أن الأميال الفاسدة ساكنة في جسده ،
وهو للأسف يطاوعها ، وإننا لنذكر القول الرسولي : " الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله "
( رومية 3: 23) .
" إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضل أنفسنا وليس الحق فينا "
( 1 يوحنا 1: 8 ) .
وفي الإسلام إقرار بهذه الحقيقة ، كقول القرآن : " ولو يؤاخذ الله الناس بظُلمهم
ما ترك عليها من دابة "
( سورة النحل 16: 61 ) .
ومن هنا يتضح لنا تاريخيا ، علاوة على ظهورة فكريا أن الإنسان الطبيعي لايمكن
أن يبلغ قمة قواه الروحية ، حتى يتحد ويقاد بما هو أسمي وأرقي من الإنسان .
( 4 ) إلى هنا كان البحث محصورا في توضيح ضعف الإنسان ، وعجزه عن السمو
إلى الصورة التي كانت لآدم قبل السقوط . ولكن الوقوف عند هذا الحد معناه الخيبة .
ونحن لا نستطيع أن نتصور أن خيبة مثل هذه ، هي من مقاصد الله القادر على كل شيء . كلا !
فالرب صالح وإلى الأبد رحمته . وهو في صلاحه لا يترك الإنسان المخلوق على صورته
في حال سيئة كهذه ، تؤدي به إلى الهلاك . فإذ قد عجز الإنسان عن إكمال مقصد الله ،
فالله سيقيض له كائنا آخر يكمله . فمن هو ؟ هو كائن من المخلوقات بالغ كمال القداسة ؟
أم هو الله نفسه ؟
( 5 ) لنحرص على التمسك بالأمور الراهنة الأكيدة ، ولا نحاول التعلل بنظرياتنا ،
حتى ولو كانت مؤسسة على قواعد لها جذور في بعض الأديان . لأن الاستسلام لها يفضي
لا محالة إلى الزيغ عن محجة الصواب . ولنذكر هذه الحقيقة أنه ليس من دين ينكر أنه
في الإنسان ميل ، لأن يكون له اتصال مباشر بالله . فإلى الله يصلي الناس ، ومنه يطلبون
العون والهدى . وهو فعلا يعين ويهدي أقدام المؤمنين في طريق السلام .
والأعظم من هذا أننا ندرك جميعا أن الغرض من الأشياء الرمزية التي يطلق عليها
اسم الأمور الغامضة ، إنما هو ارتباط النفس التام بالله . هكذا قال رجل الله العلامة أغسطينوس
في صلاته : أيها الرب . لقد خلقتنا لنفسك .
فلا تطمئن نفوسنا ، إلا بالاستراحة في ظلك الإلهي .
إذن لا سبيل للظن أن بين الله والإنسان وسيطا مخلوقا ، حتى ولو كانت طبيعته فوق الطبيعة البشرية .
فالأدلة متوافرة على ما هو نقيض ذلك .
إذن إن كان لا بد من بلوغ الخليقة إلى ذلك الكمال ، الذي قصده الله لها ،
وكان لا بد من افتداء الإنسان ، تحتم أن يكون هذا كله بعمل الله نفسه .
له الحمد والمجد إلى الأبد .
ولإتمام هذا القصد اقتضى أن يكون في اللاهوت أقانيم ، ليتم التجسد في اختيار أقنوم منها
دون غيره . هكذا صارت المسرة الإلهية ، أن يفتدي الرب جنسنا الذي سقط في الخطية
وليس له رجاء ولا معين غير الله متجسدا . لأنه وحده قادر على ما يقتضيه الخلاص .
فلوازم التجسد هي باعتبار الله أن يتخذ جسدا بواسطة أقنوم من الأقانيم .
هنا لست في معرض الرد على السؤال القائل : أما كان في وسع الله أن يخلص الساقطين
من غير تجسد ؟ إلا أنني أؤكد بالاستناد على كلام الله أن التجسد طريق موافق ولائق ،
وفي غاية المناسبة ، وفريد في الحكمة لأجل إتمام المقصود . وإن حدوث التجسد يرجح
غاية الترجيح ، إن ذلك ضروري لإتمام قصد الله بكماله في عمل الفداء .
وإن حال البشر الساقطين ، تطلب ذلك وتحتاج إليه .
( 6 ) وهناك حقيقة يجب أن أذكرها وهي أن الله له المجد إذا شاء أن يبلغ بالخليقة أوج العلي
بأن يضمها إلى نفسه بواسطة ما ، فإنه يعمل ذلك لا بأمر إلهي خارجي على سبيل كن فكان .
بل بحلوله في أسمي درجات خليقته ، أو بعبارة أخرى ، بظهورة نفسه في صورة إنسان كامل .
( 7 ) حين نتأمل التعليم الخاص بالفداء ، كما جاء في الأسفار المقدسة ، نرى أن الوسيط
بين الله والناس يجب أن تتوافر فيه الصفات التالية :
* يُتبع في الجزء الثاني *