القارئ ماهر الهيتي يكتب: النظام العالمي الجديد والثورة المصرية وشعارتها

في بداية التسعينات وعقب الانتهاء من تحرير الكويت التي خرجت الولايات المتحده منها مزهوة بقدرتها علي حشد معظم جيوش العالم في حرب تحرير الكويت.. ظهرت أفكار جديدة للتعاون الدولي والسلام العالمي..

وكان أن عقد مؤتمر مدريد لحل المشكلة الفلسطينة وإقامة مفاوضات مباشرة بين الفلسطنيين والإسرائيليين وليجلس ولأول مرة ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينه حينذاك في مؤتمر يضم قادة الدول الغربية التي لم تكن تعترف به أو بمنظمته..

وعقب ذلك خرج علينا الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ليبشر بنظام عالمي جديد، مستغلا أجواء التعاون الدولي المساند لتحرير الكويت وحل المشكلة الفلسطينة ...

ثم بدأ وضع اليات للدخول في هذا النظام فقامت منظمة التجارة العالمية بإعلان اتفاقية الجات التي تهدف الي تحرير التجارة العالمية بين دول العالم وإلغاء القيود الحكومية علي الصادرات والواردات وعدم فرض ضرائب عليها وحرية حركة رؤوس الاموال دون اي عوائق..

وقد بدأ ذلك مع ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات حيث بدأ العالم في معرفة الموبايل كوسيلة اتصالات في كل يد بالإضافة إلي تطور الحاسبات الألية التي صار من السهولة التعامل معها للأشخاص البسطاء وأيضا بدايات انتشارها وخاصة المحمول منها (اللاب توب)..

مما سهل حركة انتقال الأموال عبر تلك الوسائل وبدأت الشركات العملاقة المتعددة الجنيسيات تنشأ بقوة وتلتهم في طريقها كل الاقتصاديات المحلية الناشئة مما راح يشكل ضغوطا كبيرة علي حكومات تلك الشعوب في مجالات التنمية.

فعليها الانصياع والانضمام إلي اتفاقية الجات حتي لا تحرم من مميزات تظنها في مصلحة شعوبها بالرغم من تأثيراتها السلبية علي قدرتها علي النموالاقتصادي..

وفي مصر أنبرت كتائب الصحفيين المصريين تبشر بالنظام العالمي الجديد وتقنع البسطاء بالخير الوفير الذي سيأتي من وراء الانضمام إلي منظمة التجارة العالمية..

وبدا وكان هناك نظام عالميا جديد يرسي قواعدة.. وأتذكر أني قرأت حوارا مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عندما سأله محاوره عن النظام العالمي الجديد قال: لا يوجد حاجة اسمها النظام عالمي جديد.. فلا يمكن لك أن تشكل نظاما عالميا بقرار أي نظام عالمي يحتاج لي سنوات طويلة حتي يتبلور.. وأن المطروح علي الساحة هي أأفكار.. كان هذا علي ما أتذكر ما دار بين المفكر والمحاور وليس تحديدا بالنص..

والواقع يثبت بعد مرور قرابة العشرون عاما أن الأفكار التي طرحت لإقامة نظام عالمي جديد أسفرت عن نظام ازداد الأغنياء فيه غني وازداد الفقراء فيه فقرا بل إن الطبقة المتوسطة التي هي عماد المجتمعات وعمودها الفقري قد تلاشت في بعض المجتمعات او تقلصت في احسن الاحوال..

حتي وإن كان هناك مظاهر للمدنية الحديثة قد انتشرت مثل الجهزة الكهربائية والسيارات والأثاث الحديث والتجهيزات المنزلية والملابس المتنوعة، إلا أن كل ذلك لم يعد معيارا في ظل تفشي البطالة التي ينعدم معها الدخل مما ينبئ بانهيار كل ما تتمتع به الأسر من مظاهر للمدنية الحديثة والذي في جانب كبير منه تم بالاقتراض نتيجة التسهيلات البنكية والاغراءات التي يقدمها القطاع المصرفي الذي كان الأساس في النظام العالمي االجديد الذي يبشر به..

فتلك الأسر غير قادرة علي توفير الغذاء الذي ارتفعت أسعاره ولا تلقي العلاج المناسب لارتفاع أسعار الدواء والعلاج بالمستشفيات الاستثمارية التي ابتدعت ولا التعليم الجيد لأولادها لعدم القدرة علي المصاريف المرتفعة ولا أسعار الفوائد البنكية المرتفعة والمتراكمة عليها في وقت تتداني فيه الأجور في كثير من قطاعات المجتمعات النامية والتي تستحوذ فيه فئات قليلة علي أكثر من 50 % من ميزانيات الأجور.

وتلك الفئات هي التي مازالت قادرة علي تدوير حركة الأسواق الاستهلاكية نتيجه للسعار الاستهلاكي الذي أصابها فهي لا تكتفي بإشباع حاجاتها الأساسية ولكنها تلجاء إلي الترف الاستهلاكي وبصورة نهمة ـ مثال لها رؤوس الفساد في مصر الذين يمتلكون الأرصدة المتزايدة في البنوك وعشرات السيارات والعديد من الشقق والفيلات في كل المناطق السياحية والمتميزة بالبلاد والسهرات الفاحشة التي تعج بالساقطات المتطلعات إلي المال بأسهل الطرق والبذخ الهائل في المشروبات والمأكولات لقلة منهم قد لا تزيد علي المائة في أي تجمع لهم بما يكفي لوجبة عشاء لحي من الأحياء الفقيرة متجاهلين حق الغير في الحياة الكريمة.

ونترك المثال ما يعطيه من دلالات لنقول إن مثل هذا الأمر انتشر في مجتمعات كثيرة.. مما يؤكد أن النظام العالمي الذي تم الدعوة إليه كان لصالح قلة من الناس في العالم أثروا ثراء فاحشا وعاثوا في الأرض فسادا هائلا بما لديهم من أموال فهم أصحاب نفوس لا تشبع..

وأتذكر أيضا حوار للأستاذ هيكل قال فيه: إنه ربما يكونوا هؤلاء معزولون عن الناس.. ولكن من حولهم من سكرتارية وسائقون وخدم يرون وينقلون.. وأضيف أنه مع انعزالهم فلقد كان السمع في البداية هو الوسيلة أما مع انتشار الموبايل ذو الكاميرا صار ينقل لنا أفعالهم..

كان هذا النقل ذو تأثيران سلبيان: الأول هو أن كثير من الشباب راح يسعي إلي الثراء السريع تقليدا لما سمع به ورآه دون ضياع سنوات من العمر في بناء ثروة وهذا الثراء لا يتحقق إلا بطرق غير مشروعة فانتشرت سلبيات كثيرة في المجتمعات..

الثاني وهو احباطات أصابت الكثير من الشرفاء اللذين لا يملكون أدوات النظام العالمي الجديد للثراء منها قسوة القلوب وقدرتهم علي الصراع وسحق الآخر وامتلاك المخالب اللازمة لهذا الصراع..

في وقت كان العالم خارجا من عصور مثالية الأخلاق والعواطف والمبادئ.. فحدث الاغتراب لهؤلاء الشرفاء داخل أوطانهم وانكفوا علي بئس أحوالهم فابتعدوا عن المشاركة في الحياة داخل مجتمعاتهم ومثال لذلك الأغلبية الصامتة في مصر.. مما أتاح لأصحاب الأنياب والمخالب الفرصة بالانقضاض علي السلطة في تلك المجتمعات وتطويع القوانين لخدمة مصالحهم ولزيادة ثراءهم..

وراح الناس يبحثون عن مطالبهم التي صارت مخالفة للقوانين التي تم تغييرها فحق عليهم العقاب فصنعت الآلات الجهنمية للسيطرة علي حركة الجماهير والقضاء علي تمردها ضد الطبقة الثرية القابضة علي المال والسلطة ولا تسمح إلا بالفتات لغيرها..

ومع كل احتقان للفئات المطالبة بحقها تزيد الألة الجهنمية من غلوائها وشراستها حتي امتلآت المعتقلات والسجون وصار التخلص من المعارضين بالقتل أمر سهلا فاسفكت الدماء دون محاسبة أو مسئولية وتلك الصورة الشديدة الحدة تبدو أكثر في المجتمعات النامية والمتخلفة والبلدان التي تتميز بالحكم الدكتاتوري وعدم وجود مظاهر الديمقراطية وكأن تلك الشعوب قد خرجت من سطوة الاستعماروالمحتل الأجنبي الذي جثم علي قلوبها لعهود طويلة لتقع في جحيم يد أبناؤها العاقين والناكرين لجهود وتضحيات تلك الشعوب..

وقد أثبتت الأيام أن النظام العالمي الجديد كان وهما للسيطرة علي مقدرات الشعوب النامية ولكن لابد للنار أن تكوي وتلسع مشعلها فكانت الأزمة العالمية الأخيرة التي أصابت بالانهيار معاقل القوي الرأسمالية في العالم فراحت تتهاوي لتلسع نيران الإفلاس والفقر شعوبها ومجتمعاتها..

ومع غياب الوسيلة للتعبير عن الآلام التي تعانيها شعوب العالم في ظل سيطرة إعلامية للقوي الحاكمة وفي ظل الة جهنمية تقمع كل من يعلو صوته بالتعبير لم يعجز العالم الوسيلة الفعالة للتغيير فكان ان بدأت الشرارة من تونس الخضراء ذلك البلد صغير علي الخريطة من ظلم أصاب كرامة مواطنا تعلم من أجل الحفاظ علي كرامته أعقبها في مصر انفجار بركان هائل من الغضب الكامن في النفوس من ظلم اصاب مواطنا شابا في مقتبل العمر شعرت معه جموع المواطنين بان أبناؤهم معرضين لنفس المصير..

وتعاملت السلطة الحاكمة مع الأمر باستهانة أصابت النفوس بغضب شديد ودقت جرس الإنذار بأن الحياة وليست الكرامة فقط قد صارت معرضة للضياع من أحقر الفئات معاملة وكان السبيل هو تقليد الجماهير التونسية والخروج في مظاهرات حاشدة تم الدعوة إليها بالوسائل الالكترونية التي سخر منها قيادات الدولة المصرية التي أعماها طغيانها عن رؤية الطريق الصحيح واستهنوا بامرها - ولعل لسان حالهم يردد قول كبيرهم {... خليهم يتسالوا... }- فجرف تيار الجماهير الغاضية رؤوس النظام واطاح بها خلف القضبان..

ومع كل الاعتراف لتونس بفضلها في الثورة الشعبية إلا أن الثورة الشعبية في مصر أيقظت العالم لشدة وقوة تأثيرها الدولي والعالمي فاكتشف الفقراء والمهضموم حقوقهم في كل دول العالم قوتهم الهائلة في تجمعهم والتي يمكن أن تتطيح بكل قيادات دولهم إذا لم يستجيبوا لمطالب العدالة الاجتماعية والتي تعني المشاركة الشعبية في كل أمور الحياة وتقاسمها بين كل أفراد الشعب سواء أكانت السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية.

ومن هنا بدا أن العدالة الاجتماعية هي الأساس الذي سوف يرتكز عليه النظام العالمي الجديد الذي بدأ من تونس وانفجر في مصر شعارا فتردد صداه في المنطقة العربية بدأ باليمن وليبيا والبحرين وسوريا لينتقل اليوم وإن كان بصورة هادئة نسبيا إلي الولايات المتحدة معقل الرأسمالية العالمية واليونان وكوريا الجنوبية كما تشير الأنباء فسارعت كثير من الحكومات إلي إجراء إصلاحات جديدة تهدئة لشعوبها وتخوفا وتحسبا من خطر الانفجار.

وهكذا سجل المصريون بداية عهد جديد ربما يسود العالم بعقلية جديدة تخلق نظاما عالميا جديدا علي أسس أخري غير التي حاولوا إقامة النظام العالمي عليه والتي ثبت فشلها.. وهذا هو سر عظمة المصريين وسر الثورة المضادة لثورتهم الشعبية..

ميرسي على المعلومات
ربنا يباركك

ميرسي معلومات مهمة
ربنا يباركك

شكرا للمعلومات القمه في الروعه يسوع يبارك عمل يديك