القدّيس غريغوريوس النيصصيّ

القدّيس غريغوريوس النيصصيّ

وُلد القدّيس غريغوريوس النيصصيّ ما بين عامَي 335 و340 في قيصريّة كبّادوكية. وممّا لا شكّ فيه أنّ شخصين كان لهما الأثر العميق في تربيته الكنسيّة هما أخته البكر القدّيسة مكرينا (تعيّد لها الكنيسة في التاسع عشر من تمّوز)، وشقيقه الأكبر سنًّا منه القدّيس باسيليوس الكبير الذي كثيرًا ما دعاه غريغوريوس بـ"الأب والمعلّم". ويبدو من آثار غريغوريوس الكثيرة، والمتنوّعة الميادين، أنّه كان ضليعًا من أساليب البلاغة، وذا إلمام واسع بالفلسفة وبشتّى علوم عصره من مثل العلوم الطبيعيّة، والهيئة (علم الأجرام السماويّة)، والطبّ. أمّا في الكنيسة فبرز قدّيسنا أسقفًا ساهرًا على استقامة الإيمان، وخطيبًا مفوّهًا، وواعظًا مسموع الكلمة، ولاهوتيًّا خبيرًا حاذقًا في قضايا عصره اللاهوتيّة. توفّي عام 394 وتعيّد له الكنيسة في العاشر من كانون الثاني.

من أهمّ أعمال غريغوريوس العقائديّة "كتاب التعليم الكبير"، وهو يضمّ بين دفّتيه خلاصة العقيدة المسيحيّة، والدفاع عنها ضدّ الهراطقة واليهود والوثنيّين. يعرض غريغوريوس في القسم الأوّل لموضوع وحدانيّة الله في ثلاثة أقانيم؛ وفي القسم الثاني الخطيئة، والتجسّد، والفداء؛ وفي القسم الثالث المعموديّة والإفخارستيّا. وله "الحوار مع مكرينا" حيث جعل غريغوريوس، على لسان أخته، آراءه في النفس، والموت، والخلود، والقيامة. كما دوّن النيصصيّ أربعة كتب "ضدّ أفنوميوس" الذي رفض الإقرار بألوهة الروح القدس، وثلاثة كتب "ضدّ الأبوليناريوسيّين"، كرّر فيها المقولة اللاهوتيّة الشهيرة: "ما لم يتّخذه الكلمةُ المتجسّد لم يفتدِه".

أمّا أعماله التفسيريّة والوعظيّة فكثيرة، من أهمّها: كتاب "حياة موسى" الذي عرضناه في نشرة "رعيّتي"، العدد 36، 2005. كما وصلنا كتابان في تاريخ الخليقة: "خلق الإنسان"، و"تفسير الأيّام الستّة" الذي أتمّ فيه كتاب "الأيّام الستّة" لأخيه باسيليوس. وله مواعظ في "سفر الجامعة" يدعو فيها غريغوريوس النفس إلى التعالي فوق الحواسّ، وإلى الزهد بجمال الدنيا، وإلى العبادة الصامتة للقدرة الإلهيّة في هيكل النفس. كما يرى قدّيسنا في مواعظه عن سفر "نشيد الأناشيد" أنّ هذا السِّفر يروي قصّة اتّحاد النفس بالله في زواج سرّيّ، النفس النشوى بحبّ الله الذي هو غاية وجودها. كما ترك مواعظ في "سفر المزامير"، و"الصلاة الربّيّة"، و"التطويبات"، ورسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنثس.

ولا ريب في أنّ غريغوريوس أبدع في الكتابات النسكيّة والرهبانيّة، فنذكر في هذا الصدد بحثه "في التبتّل"، حيث يجد في التأمّل والمشاهدة ما يطهّر ويرفع إلى ما فوق الحسّيّات، إذ إنّ الله فوق التصوّرات البشريّة. لكنّنا نستدلّ من بحثه هذا أنّه قد تزوّج، ذلك أنّه يقول إنّه أصبح غير مؤهّل لأن يشترك في ثمار التبتّل. وقيل إنّه اقترن بفتاة اسمها ثيوسابية ظلّ وفيًّا لها سحابة حياته، وإنّها توفيّت عام 385. الجدير بالذكر أنّه في ذلك الأوان لم يكن ثمّة موانع أمام انتخاب المتزوّجين لسدّة الأسقفيّة. وله أيضًا بحثٌ عنوانه "في الكمال المسيحيّ"، يختمه بهذه العبارة: "الكمال الحقيقيّ لا يتحقّق أبدًا، لكنّه حركة دائمة إلى الأصلح. الكمال لا يحدّه حدّ". ومن كتبه "حياة مكرينا" (الصادر لدى "منشورات النور") التي كانت، بالنسبة إليه، نموذجًا للكمال المسيحيّ.

عالج القدّيس غريغوريوس في خطبه ومواعظه قضايا لاهوتيّة وأخلاقيّة، من مثل لاهوت الابن والروح القدس، وتجاوزات مرجئي المعموديّة، ومعاندي كلمة الله، وذوي الأطماع. كما وصلتنا منه مواعظ مناسبات كتلك التي كان يلقيها بداعي الأعياد الكنسيّة. أمّا رسائله فلم يصل إلينا منها سوى النزر القليل، أشهرها اثنتان عرض فيهما لموضوع الحجّ إلى القدس، وشجب فيهما الغلوّ في تعظيمه، فيقول: "الانتقال من مكان إلى مكان لا يفيد في التوجّه إلى الله، لكن حيثما تكون يأتي الله إليك، إذا كانت غُرَف نفسك مهيّأة لأن يسكن الله فيك. أمّا إذا كنتَ حافلاً بالأفكار الشرّيرة وكنتَ على الجلجلة أو على جبل الزيتون أو على صخرة القيامة، فإنّك ستكون بعيدًا عن تقبّل المسيح فيك بقدر ما يكونه الإنسان الذي لم يعترف بعد بالمسيح".

يمتاز لاهوت القدّيس غريغوريوس بأنّه ينطلق من الكتاب المقدّس "معيارًا للحقيقة" و"دليلاً للعقل"، ويجعل محلاًّ واسعًا في لاهوته للفلسفة وعلوم عصره من دون إغفال ما يقدّمه التراث الحيّ من معطيات. فهو يقول: "إنّنا نجعل الكتاب المقدّس معيارًا ومقياسًا لجميع عقائدنا، ولا نوافق إلاّ على ما يتّفق ومضمون هذا الكتاب". وفي مكان آخر يقول: "إذا عجز تفكيرنا عن احتواء هذه المسألة (يقصد عقيدة الثالوث) يجب علينا أن نتشبّث بالتقليد الذي ورثناه عن سلسلة الآباء".

كما يقوم لاهوت القدّيس غريغوريوس على كلمة الرسول بولس في رسالته إلى أهل فيلبّي: "أنسى ما ورائي وأمتدّ إلى ما أمامي" (3: 13)، فالكمال عنده الصعود المتواصل نحو الله، لذلك نراه يقول: "يجب أن يكون نموّنا بلا نهاية باقترابنا، في جميع الأزمان والأبديّات، ممّن هو أبدًا الأعظم". لقد أدرك غريغوريوس مَن هو الأعظم، فصار بدوره عظيمًا. فلنتّعظْ.