وإذا جاز القول فإن غورباتشوف اعتمد أسلوب «التغيير بالحكمة» الذي هو نقيض «التغيير الضوضائي». وبالحكمة هز أساسات العقيدة الماركسية الذي هو أحد معتنقيها الذين خبروا على مدى سنوات تقلّد فيها مسؤوليات حكومية وحزبية، الصالح والطالح والسيئ والجيد والحلو والمر، من هذه العقيدة الرابضة طوال أربعة وسبعين عاما على عقول شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي الكاتمة أنفاس الملايين الحارمة إياهم من التواصل الروحي مع معتقداتهم الدينية.
ربما كان الإيمان المستيقظ في نفس غورباتشوف هو الدافع إلى الأخذ بالحكمة أسلوبا للتغيير. وربما كانت تجربة المهاتما غاندي نقطة الجذب في تفكيره كماركسي يريد إصلاح النظام. وأيا كانت الحيثيات فإن غورباتشوف وضع القاعدة الأصلح للتغيير وإن انقضاض يلتسين عليه كان انقضاض شخص سكير ومغامر ما كان في استطاعته قبل الذي فعله غورباتشوف أن يمتطي «صهوة» الدبابة ثم يواصل التحرك الانقلابي الذي لم يحقق على يديه ثم على يدي ضامنه فلاديمير بوتين التغيير المنشود الذي أراده غورباتشوف «البيروسترويكا» أي إعادة البناء.
لسنا هنا في صدد إعادة قراءة ما حدث بين عامي 1988 و1991 (سنوات غورباتشوف كرئيس للدولة ورئيس للحزب الشيوعي ثم كداعية للإصلاح)، وإنما مبتغانا من استحضار تجربة غورباتشوف هو القول إن كثرة الثورات أساءت إلى الأمتين العربية والإسلامية وأضرت أكثر مما نفعت. والأهم من ذلك أن الثورة - حزبا حاكما كانت أو حاكما مستأثرا بالسلطة - أضرت بالمؤسسة التي هي رمز الاستقرار للدولة والشعب ونعني بها المؤسسة العسكرية، ذلك أن هذه المؤسسة هي للدفاع عن الوطن وليست لاستخدامات النظام. كما أن «الثورة» باتت مرادفة للكثير من الحالات المعطلة للتطور الاجتماعي والذهني، حيث إنها ضد أن يعبر الإنسان عن رأيه وإنها ضد أن يعترض المحكوم على الحاكم. بل إنها غدت وسيلة من وسائل التكسب. هذا إلى أننا على مدى خمسة عقود عربية - إسلامية عشنا ظاهرة الحاكم الذي يجد في «الثورة» ما يحمي نظامه. كذلك وجدنا كيف أن العسكريين باتوا هم «الثوار» وأن كل حالة انقلابية تعتبر نفسها «ثورة»، وبذلك غدت الأوطان من دون السياج الذي يحميه الجيش وفي الوقت نفسه يبقى النظام في مأمن على أساس أنه ما دام حاصرا اهتماماته في «الثورة» والتطلعات نحو الأهداف المثالية العصية على التحقيق فإنه لا يشكل هاجسا للغير.
ما يأمله المرء الطامح كمواطن مثل حالنا بالتغيير في الأمتين على قاعدة التعقل والواقعية والحكمة، هو التخلص بعد الآن من التصنيفات والمفردات الثورية والاكتفاء بالتحرك الذي يثمر التغيير. وهذه الحالة التي تعيشها مصر خير مثال على ما نقوله. ولعله ليس تجنيا القول إن تسمية حالة الاحتجاج التي حدثت «ثورة 25 يناير» كانت نوعا من الشغف بتقليد ما سبق أن حدث في ظروف سابقة مع حكام اعتمدوا «الثورة» سلاح ضغط. بل إنها لا تختلف كثيرا في منطلقاتها عن «ثورة 15 مايو» التي أراد منها وبها الرئيس (الراحل) أنور السادات تصفية رموز النظام الناصري. ولو أن «ثورة 25 يناير» كانت «ثورة» وليست حالة احتجاج وضيق صدر من ممارسات وانتهاكات واستلابات لكانت أنهت العهد المصري - الإسرائيلي وذلك بإلغاء المعاهدة مع إسرائيل. لكن من هو الرمز أو المرجع الذي يمكن أن يفعل ما فعله مصطفى النحاس عندما مزق المعاهدة مع بريطانيا، وأين هو البرلمان الذي من تحت قبته يفعل هذا الرمز أو المرجع بمعاهدة كامب ديفيد ما فعله النحاس باشا. فلا هو موجود ولا هو مقتنع لأن «الائتلاف الثوري» منذ البداية التزم تحييد المعاهدة كما أن «ميدان التحرير» ليس المكان الصالح والدستوري لمثل هذه الخطوة، فضلا عن أن المعاهدة التي هي علة مصر بقيت في منأى عن موجة المطالبات في أرجاء الميدان بتغيير هذا وإعدام ذاك. ثم عندما حدثت واقعة العدوان الإسرائيلي الذي قضى فيه ستة من العسكريين اقتصر التعبير الغاضب على حرق العلم الإسرائيلي والدوس عليه بأقدام محتجين وعلى متابعة النقَّاش أحمد الشحات الذي وصل متسلقا إلى أعلى العمارة الشاهقة التي في إحدى طبقاتها سفارة إسرائيل وأنزل العلم الإسرائيلي ثم تنبه بعدما أنجز نزع العلم إلى أنه لم يعلق العلم المصري مكانه فتدارك الأمر بسرعة. كما أن المعاهدة بقيت في مأمن لأن «جمعة الاختبار لحقيقة النوايا» إذا جازت تسميتنا الافتراضية لها لم تحدث في الميدان واقتصرت على مظاهرة ألوفية أمام السفارة ردد خلالها متظاهرون هتافات من ابتكار المزاج المصري الشعبي مثل «زنقة زنقة.. دار دار.. إسرائيل حتولع نار».
ومثل هذه المظاهرة الاحتجاجية المتواضعة نسبيا والخالية من أي رموز قيادية وسياسية وحزبية وإعلامية ثورية هي نوع من التأكيد بأن المعاهدة خارج «جدول الأعمال الثوري».. ولو أن «الائتلافيين» وجهوا الدعوة إلى «جمعة إلغاء المعاهدة مع إسرائيل» لكان الذين سيشاركون فيها مئات ولما كانت الأطياف الإسلامية التوجه ستشارك ولا كل الفرسان المتأهبين لخوض ماراثون الرئاسة ولا الأحزاب الليبرالية والدينية والإسلامية والقبطية بمن في ذلك الذين سيؤسسون الأحزاب الجديدة. وفي هذه الحال سيستوي الذين أبرموا المعاهدة في الثمانينات والذين «سهروا» لاحقا عليها مع الجماهير «الثورية» الجديدة. فالإلغاء يعني العودة إلى ما قبل أكتوبر 1973 وهذا لا يريده الرأي العام المصري وبالذات جماهير «فيس بوك» التي لم تذق ويلات الحرب وأرادت إثبات وجودها في «ميدان التحرير» عوض ميادين القتال. ولعل أفضل فعل ثوري يقوم به هؤلاء ويلقى الإجماع هو المباشرة بالتقليل تدريجيا من استعمال كلمة «ثورة» و«ثوار» واعتماد «حركة 25 يناير» تسمية لتحرك ضمن «بيروسترويكا مصرية» قادر على اعتماد أسلوب الضغط الذي يحقق التغيير.. وليس الانفجار بتداعياته وويلاته.