خالد أبو غليون
بالنظر إلى تداعيات عملية إيلات وما أعقبها من استنفار لحالة الاستعداء لكل المصريين على اختلاف مشاربهم ومواقعهم، وذلك بالاعتداء على رمز السيادة في الدولة المصرية، وهيبتها الكامنة في اختراق الحدود، والقتل العمد لأفراد الجيش المصري حيث وُئدَ دَمُ شهدائها في صمتٍ، بدلاً من إعلان اللطيمة السياسية والعسكرية على السيادة بالتعبئة والتفاعل مع عمليات الشحن الشعبي في العدوان الصهيوني الذي لم يحبس أنفاسه لانتظار شروع لجان التحقيق؛ ليخلق أزمة في قيمة الأرض والإنسان أمام زهادة الثمن المدفوع على مذبح العقيدة الأمنية في الإقليم.
وعقدة المنشار في هذه الإشكالية تبرز في إعادة النظر في أمنيات الذات التي تكرس للصهيوني سيادته في المنطقة، وذلك بالنظر في الجانب الأمني من المعاهدة بدلاً من إلقائها ونبذها على السواء كنتيجة حتمية لاستحقاقات المنطق والمنطقة، إن الصمت عن الجريمة والمراجعة الأمنية للمعاهدة دون سواها يخلق فضاءات هائلة للصهيوني في المنطقة وتعيد تدويره من جديد في زوايا عدة:
1. تجديد العهد بإرث مبارك من حيث توفير المصاريف الأمنية، والتي كان نظام مبارك يوفر (70%) من الكلفة الاقتصادية في الميزانية العسكرية الصهيونية، وبدلاً من خلق ظروف استنزاف الصهيوني في تدبير شؤونه الأمنية تخلق ظروف الانقلاب الأبيض على مشروع الثورة المجتمع المصري، بحيث تستعيد جزءا من كنز مبارك الاستراتيجي المفقود.
2. إحياء الأطماع في صحراء سيناء بما تمثله من موارد من جهة وبوصفها حاجزاً طبيعياً وفراغاً سياسياً أمام نقاط التماس مع المجتمعات العربية من جهة أخرى.
3. فرض أجندتها وهيمنتها في المنطقة، وإنعاش الدور الوظيفي للصهيونية في المنطقة وإثبات أهميتها في خدمة الهيمنة الأمريكية بعد أن تهاوي فاعليتها خارج حدودها بعد حرب (2006) وحرب غزة (2009)، وبالتالي إعادة تدوير الصلاحية في مشروعيته السياسية أمام الغرب في الوقت الذي بدا فيه من مخلفات العقد الماضي.
4. إعادة إنتاج أزمتها الداخلية وتوجيه أنظار المجتمع الإسرائيلي إلى مخاطر الأمن من جديد بعد خروجه إلى الشارع بهدف تحسين أوضاعه الاقتصادية المدفوعة في المستوطنات.
5. إطلاق يدها على قطاع غزة باستئناف الغارات التي يقترح بعض الداخل الصهيوني أن تأخذ طابع الغارات النوعية، والأهداف المركزة على الشخصيات الحية في القطاع.
هذا في الإشكاليات أما في خلق السيناريوهات فإنَّ إعادة النظرة إلى المعاهدة الأمنية يمكن أن يقرأ فيها طبيعة الابتزاز الموجه لهذه الإدارة في الحفاظ على مكتسبات إدارة سيناء وتحمل تكاليف الأمن المصري لحماية "إسرائيل"، وإلا فإن حلولاً أخرى قد تلوح في الأفق بوجود قوات دولية، لتجسيد المطامع الصهيونية في سيناء من جهة، ومراقبة للأمن من جهة أخرى، ومحاصرة غزة بظروف جديدة من جهة ثلاثة لتكتمل صورة ثلاثية الأبعاد، فضلاً عن مطامعها في سيناء التي تسوق على أنها منطقة خالية حتى من البشر، أما الحديث عن إعادة الانتشار فإنه بعيد من حيث الواقع السياسي الراهن في المنطقة من جهة، وقلة الكوادر في الكيان الصهيوني نفسه من جهة أخرى، فضلاً عن كونها أهداف سهلة لحصد مكاسب استراتيجية وخلق أجندات نوعية على الأرض.
كل هذا يأتي من استمرار الصمت والتلكؤ في اتخاذ القرار المناسب في غياب معايير الكرامة وهيبة الدولة، وبرامج السيادة التي يتشدق أصحاب المؤسسة العسكرية أو المدنية في الداخل، ولا نرى ممارستها في الخارج، ولو على مستوى أعضاء المصرية التي لا تعنيهم هذه القضايا، هذا في الإطار السيادي، أما في إطار الحضاري فلنا أن نتساءل عن دعاة الفرعونية التي يستدعيها البعض لحالات التفسخ في المجتمع المصري، ولا تستدعي الذاكرة وجذور العمق التاريخي التي جعلت من موسى خائفاً يترقب جراء القتل الخطأ في المقابل نرى الصهيونية -شذاذ الآفاق- تعربد على أحفاد الفراعنة في ممارسات القتل العمد، يا لعارِ الفراعنة من منتسبيها الجدد التي لا تستطيع أن تسقط المعاهدة في الوقت الذي أسقطت الفرعونية القديمة بنوة تبني القصر نفسه أمام الاعتداء على نقاء الدم الفرعوني.
إن حالة عدوان الصهيونية التي أعقبت عملية إيلات اليوم تستعدي كل مصر الضاربة في عمق التاريخ، والممتدة في محور الجغرافيا الإقليمية في المنطقة، مصر التنوع العرقي بين العرب والأقباط، مصر التنوع الثقافي في المذهبيات الأيديولوجية والتيارات الفكرية على تبايناتها البرامجية من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار القومي.
إذا ظل الكثير من الناس يتهمون الخطاب القومي والإسلامي بالخشبية، فإنَّ هؤلاء اليوم يجسدون خطاب الصنمية الكامن في التمسك في تلابيب المعاهدة وعدم التغير مع معطيات الواقع والبقاء في مخلفات التاريخ الموهوم، والحديث عن أنها اتفاقات ملزمة لا يُرى التزامها إلا من جانب واحد.
يبدو أن هؤلاء لا يدركون أن العالم يتغير ويتحرك، فقد شهدنا في القرن الماضي ثلاث تحولات جذرية من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية إلى سقوط دولة الاتحاد السوفيتي، أما اليوم فإن الأنظمة العربية تُخَطَّفُ من حولهم بسقوط ثلاثة يشكلون إحداها، أفلا تسقط معاهدة من أجندة دولة تختلف ظروف تواجدها وشرعيتها وممارساتها.