قدس الاب ميشيل سابا
مَا كُنْتُ لأَمْدَحَ مَنْ حَازَ مِنَ الصِّفَاتِ جَزِيلَهَا ، لَولا وَاجِبُ الشُّكْرِ لِمَا نَحْيَاهُ بِفَضْلِ تَعْلِيمِه .
إِنَّ القِدِّيسَ ﴿ يُوحَنَّـا الذَّهَبِيَّ الفَـم ﴾ (344 - 407 بَ. م.) لَهُـوَ وَاحِـدٌ مِنْ رُؤَسَـاءِ الكَهَنَـةِ الثَّلاثَـةِ (الأَقْمَارِ الثَّلاثَة) وَآبَـاءِ كَنِيسَتِنَا العُظَمَاء .. مُعَلِّمُ المَسكُونَةِ ، وَحَامِي التَّربِيَـةِ الأُرْثوذُكْسِيَّةِ الرُّومِيَّة .
﴿ هُـوَ مَـا هُـوَ ﴾ : بَلُّورِيُّ النَّفْسِ ، مُسْتَنِيرُ الذِّهْنِ ، مُتَأَلِّـهُ الفِكْـرِ ، ذَهَبِيُّ الفَـمِ ، عَسْجَدِيُّ اللِّسَان .
عَظُمَ الخَالِقُ فِي نَفْسِه ، فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي عَيْنِه ، فَكَانَ مِنَ الأَبصَارِ اللاَّمِحَـةِ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى ، وَالنُّفُوسِ الجَامِحَـةِ إِلَى مُوَاطَنَـةِ الفِرْدَوْس ؛ عَاشَ فِي الدُّنيَـا ، زَاهِـدًا فِيهَا، زُهْدَ الرَّاحِلِ عَنهَا ، رَاضِيًا بِأَدْوَنِ العَيْشِ. فَقَدْ عَرَفَهَا مِضْمَارًا مَحدُودَ الأَجَل ، فَعَمِلَ إِلَى مَا بَعدِ المَوت ، وَتَوَفَّرَ عَلَى العِبَادَةِ. بِقَلْبٍ عُوقِدَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ، فَفِي زَوَالِهَا لُمْحَـةٌ دَالَّـةٌ ، وَتَلْوِيـحٌ يُعرَفُ مَعنَاهُ مِنْ ظَاهِرِه . فَرَاحَ يَزْهَدُ فِي حَوْزِ المَكْرُمَاتِ ، وَيَرْفَعُ يَدَهُ عَنْهَا ، فَخَرَجَ مِنْ أَسْرِ الهَوَى المُردِي ، فَسَلِمَ مِنْ عَلائِقِهَا . فَالتَّزَهُّـدُ : قِصَرُ الأَمَـلِ بِتَوَجُّسِ المَوتِ ، وَالإِستِعدَادِ لَهُ بِالعَمَلِ بِالنُّسْكِ . فَقَد وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللهِ لَهُ ، فَتَجَافَى عَنهَا بِالنَّظَرِ تَزَهُّـدًا وَتَوَرُّعًـا . إِسْتِصغَارًا لِقَدْرِهَا ، وَذَهَابًا عَنْ ذِكْرِهَا ، فَقُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يُزُولُ ، وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لا يَبْقَى ؛ فَلا التِمَاسَ عِندَهُ لِشَيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَام . فَالتَّعَلُّقُ بِهِ : مَثْـرَاةٌ فِي فَقْـرٍ ، وَمَنْهَكَـةٌ لِلنُّفُوسِ ، وَمَضْيَعَـةٌ لِلخَـلاص.
مَـا هَابَ فِي الدُّنيَا مَلِيـكًا ، وَلا خَشِيَ رُجُـمَ الرَّدَى ، فَلَيسَ عَلَيهِ مِنهَا مَخَافَة ؛ فَلِلزَّهَادَةِ جُرْأَةٌ مَنْ تَنَسَّكَ يَعرِفُهَا
عِشْقُهُ وَاحِـدٌ لأَوْحَـدَ فِي الأُلُوهِيَّـة ، وَمَخُوفُـهُ وَاحِـدٌ مِنْ أَوْحَـدَ فِي العُبُودِيَّـة ، فَإِنَّ أَخْوَفَ مَا كَانَ يَخَافُـهُ : الخَطِيئَـة . فَعِندَهُ لا يَعْلُو خَوفَهَـا خَـوفٌ.
إِسْتَأْثَـرَ اللهُ بِعِلْمِـهِ ، بِٱسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِـهِ فِيـهِ .
فَتَعلِيمُـهُ خِبْرَةُ الكَامِلِينَ مِنْ خُلَصَاءِ اللهِ وَأَخِصَّائِه ، وَأَهلِ المُكَاشَفَةِ وَالتَّأَلُّـه . فَعَلَّمَ الأَجيَالَ قِيَمًـا مُرَشِّـدَة ، بِنَظْـرَةٍ مُسَـدِّدَة . فَحُقَّ لَهُ أَنْ يُدعَى عَلَى الأَزمَانِ مُعَلِّمَ المَسكُونَةِ ، وَمُؤَدِّبَ الشُّعُوب .
أَمَامَنَـا ، مِنْ رُفَاتِهِ المُقَدَّسَةِ ﴿ هَامَـةٌ ﴾ ، أَقَلُّ مَا فِي أَقَلِّهَا بُرهَانٌ يُحَاجُّ فِي دُنيَا مِنَ الشَّكِّ وَالإِرتِيَاب ؛ عَمِلَ اللهُ بِهَا مَا أَعجَزَ وَهَال ، وَدَعَى إِلَى التَّيَقُّظِ نُـوَّمَ الجُهَّال. أَمَا كَانَ فِي قِدِّيسِيهِ عَجِيبًا ؟ وَقَد أَرَاهُم مِنْ آيَاتِهِ عَظِيمًـا ؟!
فِي ﴿ الهَامَـةِ ﴾ ، تَظهَرُ الأُذُنُ اليُسْرَى سَالِمَةً ، حَيثُ مِنهَا كَانَ " فَـمُ المَسِيحِ " : بُولُس ، يُلَقِّنُهُ شَرْحَ مَا قَصَدَهُ فِي رَسَائِلِهِ ، فَمَا أَبْقَى شَيئًا أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ ، أَو مَرَّ عَلَى رَأْسِهِ ، إِلاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنِهِ ، وَأَفْضَى بِهِ إِلَيْـه ، وَكَـانَ " فَـمُ بُولُس " : يُوحَنَّـا ، يُفَسِّرُهَا لِلكَنِيسَة . فَـذَاكَ يُمْـلِي وَهٰـذَا عَنـهُ يَكْتُبُ .
حَـدَثٌ كَانَ يَـرَاهُ القِدِّيسُ " پْرُكْلُسْ Πρόκλος Proklos"، تِلمِيذُ قِدِّيسِنَا وَبَطْرِيَرْكُ القُسْطَنْطِينِيَّةِ لاحِقًا.
بَقِيَتِ " الأُذُنُ " ، عَلَى مَا هِيَ عَلِيهِ ، بِنِعمَةِ اللهِ ، عَصِيَّةً عَلَى البِلَى ، لا يَعرِفُ الفَسَادُ إِليهَا سَبِيلاً ، بُرهَانًا لِهٰـذَا الحَـدَثِ المُعْجِز ، وَتَأْكِيدًا عَلَى صِدْقِ مَا تَنَاقَلَهُ " التَّسْلِيمُ الشَّرِيفُ " تَوَاتُرًا ، وَتَسْبِيبًا لِلأَخذِ بِتَفَاسِيرَ آبَائِنَا القِدِّيسِينَ المُلْهَمِينَ دُونَ سِوَاهُم ، لِحَاقًـا بِهِم وَحِيطَـةً لَنَا مِنْ غَيرِهِم ، فَلَهُم وَحدَهُم أُعطِيَ التَّكَلُّمُ بِالإِلٰهِيَّات . وَبِهِـم نُقِـلَ الحَـقُّ إِلَى مُنْتَقَلِه ، فَٱسْتَقَرَّ فِي أَهلِـه . فَحَسْبُنَا مِنْهُم أَنْ نَسْتَغِشَّ فِيهِم أَهـوَاءَنَا .
فَتَعلِيمُنَا ، مِنَ المَسِيحِ رَئِيـسِ كَهَنَتِنَـا حَاصِـلٌ ، وَمِنْ رُسُلِهِ إِلَينَا عِبْرَ قِدِّيسِيهِ وَاصِـلٌ .
فَمِنْ فَـمِ اللهِ .. إِلَى فَـمِ بُولُس .. إِلَى فَـمِ الذَّهَبِـيِّ الفَـم .. يُمْلَى عَلَى آذَانِ الأُرْثوذُكْسِيِّينَ كَافَّـةً . فَمَنْ لَهُ أُذُنٌ فَليَسْمَعْ ، وَعَينٌ فَلْيَنْظُرْ ، وَبَصِيرَةٌ فَلْيَفْهَمْ ، مَا تَقُولُـهُ » الأُرْثوذُكْسِيَّةُ الرُّومِيَّـةُ « لِلعِبَـادِ قَاطِبَـةً ، وَقَـدْ جَرَتْ عَلَى عَادَةِ البُرهَانِ .. عَلَى مَجْرَى طَبِيعَتِهَا وَعَادَتِهَا ، وَمَا قَد أَلِفَتْ مِنهَا المُعجِزَاتُ لِلدَّلالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا ، بِآيَاتٍ يَقْصُرُ عَنهَا الخَلْقُ ، فَيَعْجِزُ عَنْ فِعلِ مِثلِهَا . فَحَيثُ المُعجِزَةُ تُقَامُ الحُجَّةُ ؛ وََلَطَالَمَا الْتَجَأَتْ إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ٱدَّعَتْ ، وَعَلَى المُدَّعِـي البَيِّنَـة .
وَاللهُ لَمْ يَزَلْ يُجْرِي فِيهَا عَلَى مَا يُعطِيهَا الحَقَائِق . فَكَانَتْ لِغَيرِ المُؤمِنِينَ دَلِيلاً ، فَلا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِم مِنَ الشَّكِّ حَرَجٌ . فَقِيَامُ الحُجَّـةِ لَـهُ عَلَيهِم ، مَنْزِلَـةُ قِيَامِ العُـذْرِ لَهُـم .
بِصَـلَوَاتِ أَبِينَـا الجَلِيـلِ فِـي القِدِّيسِينَ ﴿ يُوحَنَّـا الذَّهَبيِّ الفَـم ﴾ ، أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ المِسِيحُ إِلٰهُنَـا ، أَنِـرْ لَنَا بَصَائِرَنَا لِفَهْمِ مَوَاعِظِكَ الإِنْجِيلِيَّة ، وَبِنِعمَةِ كَلِمَتِكَ المُحِقَّةِ خَلِّصْنَا نُفُوسًا وَأَجسَادًا .