القدّيس كبريانُس القرطاجيّ
وُلد كبريانُس على الأرجح في قرطاجة (تونس اليوم) حوالى سنة 200/210 من أبوين وثنيّين. وكانت اسرته ثريّة ومثقّفة، فتبع دروسًا جدّيّة وصار خطيبًا لامعًا ومعلّم بلاغة. وعاش كبريانس حياة خلاعة في مدينته الشهيرة بكونها آنذاك "سوقًا للملذّات". غير أنّه اهتدى إلى الإيمان المسيحيّ عام 245 بتأثير من كاهن اسمه سيسيليانُس رأى فيه كبريانس صديقًا وأبًا لحياته الجديدة في المسيح، فاعتمد وتربّى على يده، ووزّع كلّ ثروته على الفقراء. انتُخب أسقفًا على قرطاجة عام 248، واستُشهد عام 285. تعيدّ له الكنيسة الأرثوذكسيّة في السادس عشر من شهر أيلول.
كتب كبريانُس رسالة إلى دوناتُس، أحد أصدقائه، يروي فيها اهتداءه إلى المسيحيّة: "عندما كنتُ راقدًا في ظلمة ليلة عمياء، محرومًا، في حياتي غير الواعية، من نور الحقيقة، كنتُ أجد، بسبب مسلكي، صعوبة في الحصول على الخلاص الذي وعدنا به الله في رحمته. أن يولد المرء من جديد، فيخرج من جلده القديم ليتشدّد بملامسة المياه الخلاصيّة (بالمعمودية)، أن يغيّر نفسه وذهنيّته، كنتُ أقول إنّ هذا الانقلاب لمستحيل". غير أنّ كبريانُس أثبت، عبر اهتدائه، أن ليس ثمّة أمر مستحيل عندما تتوافر الإرادة الصلبة والاتّكال على الله: "ما ليس مستطاعًا عند الناس مستطاع عند الله" وعند مَن آمن به.
يتابع كبريانُس روايته، فيقول: "بفضل المياه التي تجدّد الحياة (مياه المعموديّة)، غُسلت من خطاياي الماضية، وانتشر من العلى نورٌ في قلبي التائب، الهادئ والنقيّ. ولادةٌ جديدة أنعشتني. يا له من اهتداء رائع! لقد صرتُ إنسانًا جديدًا... والحياة الأرضيّة والمولودة من الجسد بات روح الله هو الذي يحييها من الآن فصاعدًا. هذا عمل الله! أجل عمل الله! كلّ ما نقدر عليه يأتي من الله". ويختم روايته بالحديث عن فعل النعمة الإلهيّة: "الروح القدس ينتشر بدون كلل وبلا مقدار، وبلا نهاية، فيتخطّى الحواجز، ويغمرنا بعطاياه. وبقدر ما تكون إمكانيّاتنا التي يحفرها فينا الإيمان عظيمة، تفيض فينا النعمة بغزارة أعظم".
كان كبريانُس من أشدّ المدافعين عن وحدة الكنيسة، فكتب مقالةً هامّة عنوانها "في وحدة الكنيسة الجامعة"، تتضمّن تشجيعًا للمؤمنين على صدّ خطر الانقسام الذي يتهدّدهم. يشبّه كبريانُس وحدة الكنيسة بوحدة رداء الربّ يسوع، فيقول: "سرّ الوحدة هذا يمثّله في الإنجيل رداء ربّنا يسوع المسيح... فهو واحد، في قطعة واحدة ونسيج واحد. الوحدة تأتي من فوق، أعني من السماء ومن الآب. مَن يجزّئ كنيسة المسيح ويقسمها لا يمكنه أن يملك ثوب المسيح... وبما أنّ الذي يسكن فينا هو واحد، ففي كلّ مكان يربط معًا برباط الوحدة كلّ الذين ينتمون إليه".
يعترف القدّيس كبريانُس بأوّليّة أسقف رومية (البابا)، لكنّه يرى أن ليس لأسقـف رومية "سلطـة وولايـة" على سائر الكنائس، وهو بهذا الرأي يعبّر عن موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة من هذه المسألة. وهو يثور ضدّ تسلّط البابا إستفانوس الذي أراد فرض رأيه على كبريانُس، فيقول له: "إنّ بطرس، الذي اختاره الربّ أوّلاً وعليه بنى كنيسته، عندما اختلف في ما بعد مع بولس بشأن الختان، لم يُبدِ أيّ غطرسة ولا أيّ ادّعاء وقح؛ ولم يقل إنّ له الأوّليّة وإنّه يتوجّب على القادمين حديثًا والأقلّ قدمًا أن يطيعوه، ولم يزدرِ بولس بحجّة أنّه اضطهد الكنيسة، بل استسلم برضًى للحقيقة وللأسباب الصحيحة التي عرضها بولس. وهكذا أعطانا أمثولة في الاتّحاد والصبر، وعلّمنا ألاّ نتعلّق بعناد برأينا الخاصّ، بل أن نتبنّى الأفكار الصالحة والخلاصيّة التي يلهمها لنا إخوتنا ورفاقنا، متى كانت مطابقة للحقيقة والبرّ".
كتب كبريانوس، إبّان الاضطهاد الذي عانى منه المسيحيّون، مقالة عنوانها "في منافع الصبر" يحضّ فيها المؤمنين على التحلّي بالاعتدال والوداعة وعدم مبادلة الشرّ بالشرّ، فيقول: "المحبّة تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء (كورنثس الأولى 13: 7). بهذا يدلّ الرسول بولس على أنّ الفضيلة لا تستطيع أن تستمرّ إلاّ إذا امتُحنت بالصبر. وبولس يقول أيضًا: احتملوا بعضكم بعضًا بمحبّة، واجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام (أفسس 4: 2-3). لا يمكن الحفاظ على الوحدة ولا على السلام إذا لم يجتهد الإخوة أن يحافظوا على التسامح المتبادل وعلى رباط الاتّفاق بواسطة الصبر... إذا استقرّ المسيحيّ في السلام، في لبس المسيح، يجب عليه ألاّ يقبل في قلبه لا الغضب ولا الشقاق؛ ولا يجوز له أن يجازي أحدًا على شرّ بشرّ، ولا أن يحقد".
كم يبدو راهنًا كلام القدّيس كبريانُس عن التضامن ما بين المؤمنين، وبخاصّة في أوقات الشدّة والضيق، فهو يقول في رسالة وجّهها إلى كرنيليوس بابا رومية بسبب الاضطهاد الذي ساد مدينة رومية: "ليفكّر أحدنا بالآخر في اتّحاد القلوب والنفوس: ليصلِّ كلّ منّا من جهته من أجل الآخر، في أوقات الاضطهاد والعذابات، فلنتعاضد بمحبّة متبادلة، وإذا أنعم الربّ على أحدنا بأن يموت قبل الآخر، فلتستمرّ صداقتنا لدى الربّ، ولا تتوقّف صلاتنا من أجل إخوتنا وأخواتنا عن التوجّه إلى رحمة الآب". فيا أيّها القدّيس الشهيد كبريانُس صلِّ من أجلنا.