كونوا كاملين...
يا إخوة، الشّابّ الّذي أتى إلى الرّبّ يسوع سأل سؤالاً واضحًا وبسيطًا: "ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة"؟! إذا لم يكن عند الإنسان هاجس الحياة الأبديّة، فمن المؤكّد أنّه لا يستطيع أن يسلك في الوصايا الإلهيّة. إذا كان مكتفيًا بما هو فيه على الأرض، فمن المؤكّد أنّ الإنجيل لن يعني له الكثير. ميزة المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح أنّ اهتمامهم الأوّل والأخير هو بملكوت السّموات. لهذا السّبب، قال الرّبّ يسوع: "اطلبوا أوّلاً ملكوت السّموات وبرّه، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم". إذًا، كلّ ما يمكن اعتباره اهتمامات من هذا الدّهر، هذا لا يجوز أن يحتلّ الموقع الأوّل في حياتنا. الموقع الأوّل في حياتنا هو لملكوت السّموات، أي للحياة الأبديّة. وعندما نتكلّم على ملكوت السّموات والحياة الأبديّة، عندما نتكلّم على الإسخاتولوجيا، أي ما ينتمي إلى الزّمن الأخير، فهذا لا يعني أن نهتمّ بأمور سوف تأتي بعد هذا الزّمان الّذي نحن فيه. هذا معناه أن نهتمّ بما هو لله، وبما هو لملكوت السّموات، وبما هو للحياة الأبديّة، منذ الآن! نحن لا نختبر ملكوت السّموات في وقت من الأوقات، في المستقبل. كذلك الأمر، نحن لا نختبر الحياة الأبديّة بعد أن نموت. نحن نختبر عطايا الله منذ الآن. إذًا، عندما نتكلّم على ملكوت السّموات وعلى الحياة الأبديّة، نتكلّم على نمط آخر من الحياة، على نوعيّة أخرى من الحياة نحيا فيها منذ الآن، ونمتدّ بها إلى الأبد.
ما يقابل الحياة الأبديّة هو الحياة الدّهريّة، أي أن يحيا الإنسان من أجل مقاصد تتوقّف عند حدود الحياة على الأرض. هذه هي الحياة الدّهريّة! عندما يهتمّ الإنسان بمصالحه، بعلمه على الأرض، بممتلكاته، بمقتنياته... عندما يهتمّ بالأهداف الآنيّة للحياة، أي ماذا يأكل، وماذا يشرب، وماذا يلبس... عندما يبقى في حدود هذه المقاصد الدّهريّة؛ إذ ذاك، يكون إنسانًا دهريًّا، يحلم كثيرًا، ولكن، لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من الحلم؛ لأنّ الإنسان الّذي يكتفي، من الحياة، بالمقاصد الدّهريّة الأرضيّة المنظورة، يكون غبيًّا، بحسب القاموس الإلهيّ. هذا بالضّبط ما قاله الرّبّ للإنسان الّذي أخصبت كورته وكان يفكّر كيف يمكنه أن يجمع خيراته الأرضيّة لسنين كثيرة، وخطر في باله أن يهدم مخازنه ويبني أعظم منها؛ ففي تلك اللّيلة عينها جاءه صوت يقول له: "يا غبيّ، اللّيلة تُطلَب نفسك منك، فهذه الّتي أعددتها لمَن تكون"؟! إذًا، نحن، حتّى لا نكون أغبياء، حتّى نكون حكماء في المسيح، علينا أن نسعى، في كلّ لحظة نمرّ فيها، للحياة الأبديّة. علينا أن نهتمّ، أوّلاً وأخيرًا، بملكوت السّموات، في كلّ شيء. وهذا معناه أنّ علينا أن نهتمّ بأن نكون مع المسيح، في كلّ حال، وفي كلّ شيء، وفي كلّ مكان. هذه هي الحياة الأبديّة المعطاة لنا منذ الآن، والّتي تنفتح على الأبديّة منذ الآن. إذا كان ابن الله قد تجسّد، وصار إنسانًا، وحلّ بيننا؛ فهذا معناه أنّ ما يعطينا هو إيّاه نحيا فيه منذ الآن، ونمتدّ به إلى الأبد. هذا هو هاجس الإنسان المؤمن بالرّبّ يسوع المسيح. مَن ليس عنده هذا الهاجس، فهو إنسان يعيش على الهامش، وهو إنسان غبيّ، بحسب المقاييس الإلهيّة. وإذا كان عند الإنسان هذا الهاجس، عندها يعرف في أيّ طريق عليه أن يسلك: "ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة"؟! ما من سؤال آخر مشروع يمكن الإنسان المؤمن أن يطرحه. هذا هو السّؤال فقط، ما من سؤال آخر! "ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة"؟! ولأنّ هذا الشّابّ سأل هذا السّؤال، الّذي كان قطب اهتمامه، أجابه الرّبّ يسوع بطريقة تدريجيّة، قال له: "إن كنت تريد أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا". أي إنّ عمل الصّلاح يساوي إرادة الدّخول في الحياة. ماذا عليه أن يعمل؟! – عليه أن يحفظ الوصايا. حفظ الوصايا هو الّذي من المفترض أن يكون شغلنا الشّاغل، كلّ يوم. حفظ الوصايا يعني السّلوك فيها: أن نعرف ما هي الوصايا، وأن نسلك فيها، وأن نبتعد عن كلّ ما يخالفها. وإذا شردنا، نعترف بخطايانا، ونتوب، ونعود لحفظ الوصايا والسّلوك فيها من جديد. هذا هو عملنا. فسأل الشّابّ: "ما هي الوصايا"؟ – الوصيّة، من حيث المبدأ، هي كلّ ما يطلبه الرّبّ الإله منّا. هنا، الرّبّ يردّد له بعض الوصايا. قال له: "لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، أكرم أباك وأمّك، أحبب قريبك كنفسك". الرّبّ اختار هذه الوصايا؛ لأنّ مَن يسلك فيها لا يمكنه، في الحقيقة، إلاّ أن يصل إلى وصيّة الوصايا، أي الوصيّة العظمى والكبرى.
إذًا، الإنسان يصير مؤمنًا في المسيرة باتّجاه الملكوت، وينمو في الإيمان، أي يؤمّن للرّبّ، ويجعل نفسه بين يديه. نحن نقول عن أنفسنا إنّنا مؤمنون، ولكن، في الحقيقة معظمنا لا يؤمّن للرّبّ، لا يؤمّن إلاّ لنفسه. المطلوب أن يخرج الإنسان من تعلّقه بذاته. المطلوب أن يخرج الإنسان عريانًا إلى ملاقاة وجه ربّه، ليقول له عن وعيٍ وعن إرادة: "في يديك أستودع روحي". فقط إذ ذاك، يبلغ الإنسان الكمال. وأن يبلغ الإنسان الكمال معناه أن يصير إلهًا من الإله.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.