"صار مثلنا لكي يجعلنا مثله"
"إنّ المسيح، لأجل محبّته اللامتناهية، قد صار مثلنا لكي يجعلنا مثله". هذه العبارة التي قالها القدّيس إيريناوس أسقف مدينة ليون (+202)، وتبنّاها التراث الآبائيّ الكنسيّ، توجز كلّ الكلام اللاهوتيّ عن سرّ تأنّس ابن الله، أو تجسّده. كما أنّ هذه العبارة تحدّد بدقّة الهدف الأسمى الذي من أجله صار ابن الله، الإله الأزليّ، إنسانًا تامًّا. أمّا الهدف فهو أن يرتقي الإنسان إلى المثال الذي خلقنا الله عليه، منذ خلق آدم وحواء، وهذا المثال المنشود ليس سوى الربّ يسوع. صار ابن الله إنسانًا ليصير الإنسان ابنًا لله، إلهًا بالنعمة.
منذ نشأة الكنيسة الأولى ظهرت بعض البدع والهرطقات التي رفضت الاعتراف بأنّ المسيح كان إلهًا تامًّا وإنسانًا تامًّا. فتولّى الآباء القدّيسون والمجامع المسكونيّة الردّ على تلك الانحرافات. أمّا في شأن تأكيد "بشريّة يسوع"، فأقرّ المجمع المسكونيّ الرابع (خلقيدونية، عام 451)، بالاستناد إلى الكتاب المقدّس والأدب الآبائيّ، أنّ يسوع "إله حقّ وإنسان حقّ، مكوّن من نفْس عاقلة وجسد، وإنّه مساوٍ للآب في اللاهوت ومساوٍ لنا في الناسوت، وقد صار بشرًا مثلنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة (عبرانيّين 4: 15). قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم البتول والدة الإله، بحسب البشريّة".
عبر عبارة "لأجلنا ولأجل خلاصنا" يؤكّد المجمع المسكونيّ الرابع على الارتباط الوثيق ما بين كمال الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة في الربّ يسوع والخلاص الموعود به كلّ البشر. في هذا يقول العلاّمة أُوريجانس (+235) "لو لم يكن المسيح إنسانًا كاملاً، لاستحال خلاص الإنسان بكامله"، وكذلك يقول القدّيس غريغوريوس النازينـزيّ اللاهوتيّ (+389)، في السياق ذاته: "إنّ أيّ شيء فينا لا يمكن أن يُشفى ويُخلّص إلاّ باتّحاده بالله". لذلك، لو لم يتّخذ ابن الله في شخص يسوع المسيح الطبيعة البشريّة كلّها لما أُتيح لنا أن نخلُص به.
في الواقع، وكما أشرنا أعلاه، ظهرت منذ الحقبة الأولى لانتشار الإيمان المسيحيّ بعض البدع التي رفضت الاعتـراف ببشريّـة يسوع. وهذا نلمسه في إنجيـل القدّيس يوحنّا اللاهوتيّ وفي رسائله الجامعة حيث دحض تلك البدع مؤكّدًا على حقيقة تجسّد الربّ. ففي فاتحة إنجيله يؤكّد يوحنّا على أنّ "الكلمة صار جسدًا وسكن في ما بيننا" (1: 14). وعبارة "صار جسدًا" تعني صار إنسانًا أو، بشكل أدقّ، إذا عدنا إلى اللفظ اليونانيّ وما يقابله بالعبرانيّة، "صار بشرًا". وما أراد يوحنّا تأكيده، عبر قوله هذا، هو أنّ كلمة الله الكائن منذ الأزل عند الله هو نفسه صار بشرًا مثلنا.
القدّيس يوحنّا نفسه يعيد التأكيد على هذه المسألة في فاتحة رسالته الأولى الجامعة: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأمّلناه ولمستْهُ أيدينا من كلمة الحياة" (1: 1). ثمّ يجعل الإيمان بالتجسّد المعيار الحقيقيّ للإيمان المسيحيّ: "كلّ روح يعترف بيسوع المسيح أنّه جاء في الجسد يكون من الله، وكلّ روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله" (4: 2-3). ويكرّر الفكرة ذاتها في رسالته الثانية الجامعة: "إنّه قد انتشر في العالم مُضلّون كثيرون، لا يعترفون بيسوع المسيح الذي أتى في الجسد" (الآية 7). لا ريب في أنّ القدّيس يوحنا في تشديده على حقيقة التجسّد، إنّما كان يردّ على فريق من "الغنوصيّين" أو "أصحاب المعرفة" الذين كانوا يرفضون الإيمان بأنّ المسيح كان له جسد حقيقيّ، بل كانوا يعتقدون أنّه اتّخذ "مظهر جسد" أو "شبْه جسد"، لذلك دُعوا بـ"المظهَريّين" أو "الشبهيّين".
كما قاوم آباء الكنيسة منذ القرن الأوّل تلك البدع، فالقدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ (+107) الذي عاصر الرسل يؤكّد إنّ إنكار حقيقة بشريّة يسوع هو في الوقت نفسه إنكار حقيقة الفداء، وتاليًا إنكار حقيقة الخلاص، لأنّ المسيح إنْ لم يكن له سوى "مظهر جسد"، فهو لم يتألّم إلاّ ظاهريًّا، ونحن لم نحصل على الفداء إلاّ في الظاهر، وكذلك تصبح الإفخارستيا مجرّد مظهر، ويصبح بذلك مناقضًا للعقل أن نتألّم في الجسد لأجل يسوع ونحتمل لأجله الاضطهاد، فكلّ شيء يتلاشى في تلك الظواهر. لذلك يدعو إغناطيوس المسيح "حامل الجسد".
نحن نؤمن بأنّ ابن الله، الإله الأزليّ، في كيانه وشخصه، قد حضر إلينا في شخص يسوع المسيـح. فمـَن رأى يسـوع رأى اللـه، ومـَن اتّحـد بيسـوع اتّحد بالله... وهذا الإله المتجسّد حقًّا الذي بحياته من الميلاد إلى القيامة مرورًا بكلّ الأحداث الخلاصيّة قد أتاح لنا، إذا آمنا به وسلكنا بمقتضى إنجيله، أن نصبح مثله. فلو اعتبرنا يسوع مجرّد إنسان لاستحال عليه أن يوصلنا إلى الله. ولكن بما أنّه إله فهو يستطيع أن يوصلنا إلى الله. هذه هي خُلاصة العقيدة الأرثوذكسيّة القائلة بأنّ يسوع هو نفسه كلمة الله الذي اتّخذ جسدًا حقيقيًّا، وأنّه "إله حقّ وإنسان حقّ"، وإنّه شخص واحد في طبيعتين، طبيعة إلهيّة وطبيعة إنسانيّة.
إذ نحن ذاهبون في هذه الرحلة الصياميّة المباركة إلى عيد الميلاد المجيد، ينبغي لنا ألاّ نغفل أنّ الطفل الآتي يرغب إلينا ألاّ نعيّد لميلاده وحسب، بل لخلاصنا الذي هو ثمرة حبّه المجّانيّ لنا.