أسباب سقوط الدولة الكلدانية :
بقلم : الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
يتناول هذا المقال سقوط آخر دولة وطنية في بلاد ما بين النهرين دون الإشارة إلى سفر دانيال والإجتهادات في تفسيره بسبب المغالطات التاريخية الواردة في كتاب العهد القديم، كما جاء على لسان عدد من الباحثين. كنت أتمنى أن أجد نصا متكاملا باللغة الإنكليزية، بعيدا عن الدين، يحكي لنا قصة سقوط بابل كي أترجمه دون عناء، لكني لم أجد ذلك النص الذي يشفي غليلي. لذا قررت أن أكتب هذه المقالة إعتمادا على نصوص تتفق غالبا وتتعارض أحيانا في بعض من تفاصيل هذه القصة المثيرة التي سأبدأها بتذكير القارىء بالملك الكلداني الشهير نبوخذنصر (والأصح: نبوخذرصـّر).
رغم الإنجازات الباهرة التي حققها نبوخذنصرخلال حكمه، خاصة في الإعمار، وشهد لها العالم، فقد مرّت بابل وحكوماتها المتعاقبة بأوقات عصيبة وأزمات حادة كان سببها ذريته وجيوب الإمبراطورية الآشورية المنهارة. فأول من تولى العرش بعد نبوخذنصر كان نجله أميل مردوخ الذي لم يدم في الحكم سوى سنتين (562 – 560) لأن أخيه من غير أبيه، نيرﮔال آشور أوصر، أجهز عليه وذبحه وتولى العرش بدلا عنه. جاءت وفاته المبكرة بعد أربع سنوات من حكمه (560 – 556) فجلس على العرش نجله، لباشي مردوخ، الذي تعرض إلى مؤامرة وأقصي عن الحكم في انقلاب عسكري بعد تسعة أشهر فقط، هذا الإنقلاب الذي يعتقد بأن أمير البلاط الملكي بلشزر (أو: بعل شاروزر)، إبن نبونيدوس، هو من كان العقل المدبر لهذا الإنقلاب. إختار المتآمرون من بينهم نبونيدوس (أو: نبونايدو) ملكا على بابل (555 – 539)، وهو آخر ملوك بابل الحديثة. ويقال عن نبونيدوس بأنه كان مواليا للآشوريين.
تفيدنا أحدث المكتشفات التي خلفها لنا نبونيدوس، وكما جاء على لسانه، بأن الحكام الذين سبقوه ظلوا طريقهم وشذوا عن الحكامة الرشيدة التي أرسى قواعدها آبائهم. يقول عن أميل مردوخ بأنه لم يحافظ على عهد أبيه نبوخذنصر. وبالمثل، فأن لباشي مردوخ، حفيد نبوخذنصر، أخفق في السير على نهج والده نيرﮔال آشور أوصر، ولذلك كان القدر المحتوم بالمرصاد لهما في مقتبل العمر. أقسم نبونيدوس على الولاء لمبادىء الآباء في حكمه، وهذا ماجاء في شهادته الموثقة على لوحه الخاص ويؤكد على ما جاء فيها من تفاصيل المشهد السياسي المؤرخ الكلداني برحوشا (بيروسس)، ولكن يبقى هذا الوصف إفتراضيا، إذ ما يقوله الأعداء المتربصين بالحكم يخالف الوضع الراهن آنذاك. هنالك من يعطي تفسيرا مغايرا لتبرير نبونيدوس، مفاده أن الملوك الذين يشير إلى عجزهم في شهادته وجدوا في رجال الدين ملاذهم الآمن. ودليل هؤلاء الباحثين في التوجه الديني للحكم هو إطلاق سراح حاخام يهوذا من السجن ودعوته لمأدبة أميل مردوخ. ولكي نقطع الشك باليقين، علينا أن لا ننسى بأن المؤامرات الخارجية والداخلية هي السبب الرئيسي الذي هدد أمن واستقرار البلاد، وبالتالي سقوط آخر إمبراطورية سامية في بلاد ما بين النهرين. لقد كانت تحاك المؤامرات ضد الملوك الكلدان منذ أن استلم نبوخذنصر مقاليد الحكم، هذه السلسلة من الدسائس التي كان آخرها مؤامرة نبونيدوس وصحبه. لو كـُتبت حياة أطول للملك نيرﮔال آشور أوصر ، كنا شهدنا إعمارا ورخاء على خطى نبوخذنصر، وكان عمر الإمبراطورية الكلدانية أطول. وما النقوش التي عثرنا عليها إلا خير دليل على كفاءة هذا الملك في إعادة الإعمار وإدارته الحكيمة في قيادة الدولة عسكريا ومدنيا، فقد غزا الأناضول وعبر جبال طوروس وحقق نصرا في صقليا.
ترى ما الذي فعله نبونيدوس الموالي للآشوريين؟ الجواب الذي حصلنا عليه هو أنه ضرب الإرث الثقافي الكلداني عرض الحائط وذلك بتفضيله إله القمر الآشوري، سين، على كبير آلهة الكلدان مردوخ في حران وإلغائه إحتفالات رأس السنة البابلية، أكيتو. وهذا الأمر مذكور صراحة في حوليات نبونيدوس التي عثرعليها المنقبون. ولأن مردوخ لم يكن مجرد رمز ديني للعبادة، بل كان رمزا لهيبة بابل برمتها وشعب بابل بأجمعه، فقد أثار هذا السلوك سخط وغضب رجال الدين وكل مواطني بابل المخلصين ودفع بهم للترحيب بالإمبراطور الفارسي سايروس العظيم فاتحا ومنقذا من قبضة حاكم عسكري أهان إلههم الأكبر وتقاليدهم. لم يدخل سايروس بابل، وإنما عين إبنه قمبيز نائبا له لفترة من الزمن. تفيد إحدى القصائد الشعرية بأن نبونيدوس كان معتوها وكافرا. ورغم هذا الوصف، يقال بأنه استطاع ضم أجزاء مهمة من بلاد العرب إلى مملكته، خاصة نبطيا. يبقى سبب الضم مجهولا، ولكن أغلب الظن أنه كان يحاول إيجاد تحالفات أمام المد الفارسي.
وإضافة إلى ما تقدم، نستطيع القول بأن ضعف الحكومات التي جاءت بعد نبوخذنصر وانخفاض انتاج المحاصيل الزراعية والتراجع في التبادل التجاري وزيادة الضرائب سهلت الأمر على المحتل الفارسي. سقطت الإمبراطورية الكلدانية، كالآشورية التي سبقتها، ولم تنهض من جديد رغم محاولات الثوار المتكررة في استعادتها، نذكر منهم القياديين التالية أسماؤهم ممن يذكر التاريخ سنوات انتفاضتهم:
ندينتو- بعل (نبوخذنصر الثالث) – سنة 522
أراخا (نبوخذنصر الرابع) – سنة 521
بعل – شمـّاني – سنة 484
شمش – أريبا – سنة 484
ندين – بعل – سنة 336/335
وهكذا غابت الشمس عن إمبراطورية مزدهرة سلبت كنوزها ومجدها جيوش غازية من الشرق والشمال والغرب، وما بقي تحت التراب وفوقه وفي القبور الملكية من كنوز وألواح منقوشة وتاريخ حافل بالمآثر قد يفضي لنا بأسرار جديدة كنا نجهلها.
المصادر:
Godspeed, George (1902). A History of the Babylonians and Assyrians. Part IV: The New Babylonian (or Kaldean) Empire. New York: Charles Scribner's Sons.
http://history-world.org/chaldeansgodspeed2.htm
http://public.wsu.edu/~dee/MESO/CHALDEAN.HTM
http://rbedrosian.com/euseb2.htm
http://www.livius.org/ba-bd/babylon/...an_empire.html