مستقبل مصر في يد بنت اسمها رجاء.. (قصة معبرّة جداً جداً..)
اوكتافيا نصر -
صحافية لبنانية كانت بهمة بمصر..
قصة حقيقية مؤثرة وحديثة التاريخ
===========
ما إن هبطتُ في القاهرة حتى شعرت بثقل الحياة، والاقتصاد، والسياسة، والنفَس. ولم يمضِ وقت طويل حتى صارحني أحد المصريين بأن الأمور "في ظل ديكتاتورية مبارك كانت أفضل مما هي في عهد الإخوان المسلمين". وتبعته تعليقات مماثلة، وخصوصا من فقراء الحال على غرار سائق تاكسي قال لي إنه يعمل أحياناً طوال النهار كي لا ينام أولاده جياعاً. لم تكن الحياة أفضل بكثير من قبل، لكنها "لا تطاق" الآن، كما قال طالباً من الله السماح لأنه يتمنّى الموت للتخلّص من "حياة المَذَلّة!"
بعد تمضية بضعة أيام في القاهرة، يظهر الواقع واضحاً للعيان: تقف مصر عند نقطة غليان خطيرة في انتظار انفجار كبير، وشعبها بالغ التوتّر. لقد رأينا الخطر وانعدام الأمن في الشوارع حيث تنتشر العصابات التي تشهر السكاكين، وتتوزّع في مجموعات. أما النتيجة، فتراوح بين الترهيب والتهديدات الى ان يحصل أفراد العصابات على المال فيرحلوا، أو يمكن أن يصل الأمر إلى حد الضرب وحتى القتل.
وفي أماكن أخرى، يحصل ترهيب من نوع آخر: آلاف الباعة المتجوّلين يعرضون بضائعهم على أشخاص غير مهتمّين، ويلحّون عليهم بلا كلل كي يشتروا منها.
في خضم اليأس، سمعت صوة فتاة تُهدّد رجلاً: "ما تمدش إيدك علي لحسن أنا اللي حاضربك وإكسرلك دراعك!" وصُدِمت عندما رأيت فتاة صغيرة تعارك بمفردها رجلاً ضخماً يريد ضربها. لم نكن في مكان حيث يمكن أن تتعرّض قاصرٌ وحيدة للتحرّش الذي يتفشّى في مصر منذ عقود، وتحاول النساء الأكبر سناً والأقوى محاربته، إنما من دون تحقيق أيّ نجاح يُذكَر.
سأستخدم اسماً مستعاراً، رجاء، للإشارة إلى الفتاة البالغة من العمر تسعة أعوام، ولن أكشف مكانها حمايةً لهويتها.
لا أعرف ما إذا كانت الحكايات التي روتها لي عن حياتها صحيحة. هل لديها فعلاً إخوة وأخوات؟ هل والدتها جميلة وذكية إنما مريضة؟ هل شقيقتها الكبرى خجولة بما يمنعها من التسوّل في الشوارع؟ هل هجر والدها زوجته وترك لها ستّة أولاد لتعتني بهم؟ هل تذهب رجاء إلى المدرسة نهاراً وتتسوّل لاحقاً في الشوارع؟ كل ما أعرفه هو أنها ظلت تكرّر "هل تعتقدين أنني أكذب؟ لست أكذب وأكره الكذّابين".
لازمتني طوال ساعات؛ تحدّثنا كثيراً خلال المهمة الصحافية التي كنت أقوم بها، قبل أن تصير هي موضوع هذا المقال. كانت مهذّبة ولطيفة وذكية خلال وجودها معي. شاطرتني أحلامها وأمانيها: لو كان في حوزتها 50 جنيهاً (نحو 8 دولارات)، لاشترت لعبة وباعتها لأحد المارّة. وبواسطة المال الذي تجنيه، تشتري لعبتَين وتبيعهما، ثم تشتري مزيداً من الألعاب إلى أن تحقّق أرباحاً كافية لشراء قطعة لحم "كي تولم عليها العائلة". فكّرتْ في أن تصير صحافية، مثلي، "إذا كان المدخول جيداً". لاحقاً علّقت قائلة ان "عمل الصحافي صعب جداً"، واختارت عوض ذلك أن تصير طبيبة أطفال. ترى رجاء أنه "لو كان الناس أكثر لطفاً ويساعد بعضهم بعضاً، لأصبحنا جميعنا في حال أفضل". وقالت أيضاً كلاماً حكيماً "أتعلمين لماذا المستقبل جميل؟ تستطيعين أن تتمنّي كل ما تريدينه!" أوافقها الرأي تماماً، وما كنت لأعبّر عن الفكرة بكلام أفضل!
في بلد يعيث فيه الفساد والانتهازية خراباً، وقد خرجت هذه الممارسات عن السيطرة "بعد الثورة"، كما يشتكي كثيرون، راودني شعور منعش لرؤية فتاة صغيرة فضولية وقويّة العزيمة تبحث عن الدفء والاهتمام وعن فرصة للنجاح.
مع أن رجاء باتت قريبة جداً مني، لم تقبل أن أقدّم لها ما تأكله أو تشربه. فتاة في التاسعة من العمر تجوب الشوارع وحيدة وسط المخاطر، لكنها تتحلّى بالذكاء الكافي كي لا تقبل شيئاً ما عدا المال من شخص غريب مثلي، وان تكن أحبّتني كثيراً.
قد تصبح رجاء ذات يوم قاضية أو طبيبة أو رئيسة مصر. تخيّلوا كيف ستصير عندما تكبر. تخيّلوا كيف سترسم طفولتها معالم مستقبلها، وكيف يمكن أن يكون مستقبل مصر في عهدتها.
افترقنا رجاء وأنا، بطريقة عادية جداً. لم تسألني قط عن اسمي أو كيف يمكننا أن نبقى على تواصل. أرادت فقط أن نتبادل قبلة الوداع.
فكّرت في نفسي في أنها ستكون على ما يرام. ستكون مصر على ما يرام ما دامت إحدى مخلوقاتها الأضعف والأكثر هشاشة تتحلّى بهذه الإرادة للبقاء والنجاح وبالطموح إلى أن تصير ذات شأن وقيمة على رغم كل المشقّات