جورج كونتينو : الحياة اليومية في بلاد بابل و آشور ،
نظرة كلية :المقصود بالنظرة الكلية هو عدم تجزئة الإنسان الى روح ومادة ،ونفس وجسد ، وفكر وعمل ، كما يفهم من المصطلح عدم فصل الدين عن الدنيا ، والحياة الروحية عن الحياة الاجتماعية ، والأخلاق عن الممارسات ، وحياة الدنيا عن حياة الآخرة .
في حين لو رأينا ماذا يقول أفلاطون ومن آمن بنهجه بأن : الروح تهبط من فوق ، لتتقمص جسدا ، هو بمثابة سجن بغيض لها ، وتود لو تفلت منه لتحلق الى الموطن الأصلي حيث عالم (المُثل ) .. وزاد أتباع أفلاطون : أن المادة رجس و الجسد دنس ، لذا فإن مهمة المرء في حالة عملية تطير نفسه ، التخلص من عالم الشقاء و الاندماج بعالم الروحيات السعيد .. وقد ذهب بعضهم الى أكثر من ذلك باعتبار المرأة هي مصدر الخطيئة ..
أما أرسطو فاعتبر المادة قوة و الروح فعل . وذهب الى نظرة غريبة حيث اعتبر أن العمل هو من مهمة العبيد في حين التفكير من مهمة الأسياد .. لقد تجاوزت حضارة الرافدين هذا التقسيم و اعتبرت أن النظرة يجب أن تكون كلية .
نظرة إنسانية :
ركزت حضارة وادي الرافدين على عالم الإنسان ، بعكس الحضارة المصرية التي ركزت على الموت والحياة التي تتبع الموت .. وهنا يشير ( كريمر ) الى ملحمة ( جلجامش ) فيعتبرها عمل أدبي راقي .. وكان الإنسان هو محور تلك الملحمة ، فيشير ( كريمر ) بأن ( جلجامش ) الذي ثلثاه إله و الثلث الثالث من البشر ، إلا أن التركيز كان على صفته البشرية * 1
وكثيرة هي النصوص التي تهتم في الإنسان ، ففي ملحمة (جلجامش ) تبكي الآلهة الإنسان الذي كان الطوفان قد أوشك أن يقضي عليه نهائيا * 2
ولنلحظ هذا النص الذي هو حديث لربة ( الحانة ) موجها الى ( جلجامش) :
إلى أين تسعى يا جلجامش
إن حياة الخلد التي تبغي لن تجدها
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة الأبدية
أما أنت يا جلجامش ، فليكن كرشك مليئا على الدوام
وكن فرحا مبتهجا نهار مساء
و أقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك و استحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية *3
لكننا نعلم أن جلجامش لم يستجب لتلك المطالب و بقي يعاند الآلهة ويبحث عن الخلود .. وهي إشارة واضحة على ترجيح الإنسانية على الخنوع لطلب الآلهة .
فيجيب جلجامش على الطلب السابق بالتسليم بما قدر له :
عندما لم يكن للسماء اسم بعد
عندما لم يكن للأرض تحت السماء اسم بعد
لم يكن بعد ألواح قدر . ولم يكن بعد كون *4
يتبع
ـــ
1 ـ جورج كونتينو :الحياة اليومية في بلاد بابل و آشور بغداد 1979 ص 40
2ـ صموئيل كريمر : من ألواح سومر /ترجمة طه باقر ص 305-306
3 ـ ملحمة جلجامش / طه باقر بغداد 1980 ص 9
4 ـ ملحمة جلجامش ص 135و 1384ـ د أحمد كمال زكي ، الأساطير ، دراسة حضارية مقارنة بيروت 1979 ص 9
سمو أدب شعب الرافدين
لقد تميزت آداب السومريين والأكديين و البابليين وما أتى بعدهم ،بأنه أدب مكتمل السمات ، معظمه شعري ذو طابع رفيع و خصوصية متميزة ، الأمر الذي جعله يؤثر على الآداب العالمية اللاحقة مع احتفاظه بالأصالة والأسبقية .
يقول الباحث طه باقر ( .. إنما يثير الدهشة لدى الباحث الحديث أن يجد ذلك الأدب الموغل في القدم ، يتميز بالمقومات الأساسية التي تميز الآداب العالمية الشهيرة ، سواء كان ذلك من ناحية الأسلوب وطرق التعبير أم من ناحية الموضوع والمحتوى والصور الفنية المعبرة ، والأصالة والجرأة وأهمية الموضوعات التي تناولها )*1
وقد عرف أدب وادي الرافدين أشكالا تعبيرية نذكر منها :الأساطير :
هناك فرق بين الحكايات الشعبية الخرافية والأساطير ، وإن كانت الاثنتان قد سبقتا التاريخ المدون .. فالحكاية الشعبية الخرافية تعتمد أسلوب قصصي متخلف يقوم على اعتقاد باطل في كثير من الأحيان ، في حين أن الأسطورة قد تكونت في بدايتها عن تأمل فلسفي فكري عميق ، لتفسير ظاهرة طبيعية ، فأخذت الشعوب تلك الأساطير كثوابت في اعتقاداتها ، وتداخلت تلك الاعتقادات مع المعتقدات الدينية السماوية ، واحتلت مكانا في نفوس الشعوب الذين ورثوها عمن قبلهم من الحضارات المتعاقبة .
وتعتبر منطقة وادي الرافدين مهدا للأساطير ، وقد اشتهر منها أساطير دونت في أعمال أدبية راقية ، كملحمة (كلكامش) و ملحمة (الخليقة) و (الطوفان) ونزول إنانا ـ عشتار الى العالم السفلي وغيرها *2أدب الحكمة و أجناس أدبية أخرى
قد لا ندلل بتلك العجالة على شيء من غنى آداب وادي الرافدين ، ولكننا سنجتهد في (تكثيف ) ما نود التدليل إليه بتلك الأنواع من الآداب ، التي تشمل حكم ووصايا ، و العدل الإلهي والحوار بين اثنين من أصناف مختلفة من الكائنات ..
فتلك عينة من الحكم السومرية :
• لا تدع الغضب يظهر على وجهك في أثناء الخصام .
• المال مثل الطير لا يعرف موطنا ثابتا .
• إرم كسرة للكلب فيهز لك ذيله .
• لن يترك العدو بوابة مدينة ضعيفة السلاح .
• لا كسب بدون تعب .
• إذا كانت خميرة الجعة حامضة فهل تكون الجعة حلوة ؟
• هل تضرب الثور إذا كان دائبا على السير ؟
• شد حزامك يكن إلهك معك .
• إذا أسأت الى صديقك فما عساك أن تفعل مع عدوك ؟*3
وفي أدب وادي الرافدين نوع من أدب المناظرة ، فهناك مناظرة بين الراعي والفلاح و الصيف والشتاء ، والفأس والمحراث ، والقمح والشعير وغيرها ، وقد سبق أدباء وادي الرافدين غيرهم حتى (كليلة ودمنة ) في الأدب الساخر والحوار بين الحيوانات ، وهاكم هذا النموذج بين البعوضة والفيل :
( وقفت مرة بعوضة فوق ظهر فيل وهو يمشي ، فقالت له : هل أثقلت عليك يا أخي ؟ فإن كنت فعلت فإنني سأنزل عنك عند بلوغنا مورد الماء . فأجابها الفيل: من أنت ؟ لم أحس أنك كنت فوق ظهري ولن أعرف عندما ستنزلين !)*4
كما أجاد أهل الرافدين بالشعر الغزلي .. وقد تكون القصيدة التالية أول قصيدة غزل في تاريخ البشرية وهي بين (أنانا و دموزي ) :
أيها العريس الحبيب الى قلبي
جمالك باهر .. حلو .. كالشهد
أيها الأسد الحبيب الى قلبي
جمالك باهر .. حلو .. كالشهد
لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك ، وأنا خائفة مرتعشة
أيها العريس دعني أدللك
فإن تدليلي لك أطعم وأشهى من الشهد
الخ القصيدة *5
وبرع أدباء من الرافدين في وضع التراتيل
يا منير الظلمات ويا من يمحو الشر في العلى وفي الدنى
تنشر أشعتك كالشبكة على البسيطة و الجبال والبحار
أنت تمسك بأطراف الأرض المعلقة من وسط السماء
....
أنت الذي تحاكم الأشرار و تختبر الأخيار
أنت تحكم في مصير من يغشون في الوزن والحساب
وتعاقب القاضي الذي لا ينهج محجة العدل
والمرتشي الذي يضلل طريق العدل *6
يتبع
اختراع الكتابة :
مرت الكتابة التي يسجل لأهل العراق القديم الفضل في اختراعها في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد ، بثلاثة مراحل : مرحلة الصور و الأشكال ، مرحلة الرموز والأصوات ، ثم مرحلة الأبجدية *1. وقد كشفت التنقيبات في بلاد ما بين النهرين عن مدارس قديمة جدا ، عرفت النضوج والازدهار منذ النصف الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد وكان على التلاميذ فيها أن يتقنوا فن القراءة والكتابة لتدوين الوثائق وتسجيل العقود وكتابة الرسائل والنصوص الدينية والأدبية والقانونية وغيرها . وكان للضالعين في الكتابة مكانة رفيعة في العراق قديم * 2
كانت مادة الكتابة ( الطين ) لها الأثر الأكبر في تحديد نوع الكتابة وطريقتها ، وذلك في حفظ الوثائق المدونة من التلف ، وفي طريقة جمع النصوص وفهرستها ، خصوصا الطويلة منها .. وكانت النصوص الأدبية التي تحفظ على عدة ألواح ، تتم بأن يدون على اللوح التالي آخر ما دون على ما قبله من الألواح .. أما النصوص التاريخية الطويلة ، فكانت تحفظ باستعمال المناشير والأساطين وهي كبيرة بحجم الكراس ..
ورغم الاعتقاد السائد بأن الصينيين هم مخترعو ( الكتاب) وأن الكنعانيين هم مخترعو (الأبجدية ) .. فإن السومريين هم مخترعو الكتابة ومنشئو المدارس ومدونو الألواح ، لذا فهم الأوائل في تاريخ التربية والتعليم *3
تدوين التاريخ والمراسلات :
دأب إنسان وادي الرافدين على تدوين تاريخه بشكل حوليات ، تتناول أهم الأخبار التي جرت خلال العام و قد أخذ عنهم اليونانيون ذلك التاريخ الذي أسموه (القصائد الهوميرية ) *4
أما المراسلات ، فقد ذكر (كونتينو ) أن أهل العراق القديم لم يملوا من الإكثار من المراسلات بين الملوك أو عن الملوك أو قضايا اجتماعية و قد ابتدعوا ترويس الرسالة ب ( من فلان .. الى فلان ) ثم التمنيات بالصحة والحياة السعيدة ، ومن ثم يدخلون بالموضوع وهو نهج لا يزال سائر حتى اليوم *5
أدباء و كتاب :
ذكر لنا التاريخ مجموعة من الكتاب العراقيين القدماء ، منهم : (دودو) الذي عاش في مدينة (لكش) عام 2350ق م ، و (سين ـ ليقي ـ أونني) أحد جامعي ملحمة (كلكامش) .. و ( كبتي ـ ايلاني ـ مردوخ) ، مؤلف أسطورة إله الطاعون .. وغيرهم الكثيرون الذين تعرف الباحثون في الآثار على قدرتهم ومكانتهم العالمية .. والذين نقل اليونانيون عن أعمالهم الكثير .
أثر حضارة العراق على الحضارات العالمية :
يبدو أن هواجس الحسد والحقد على حضارة العراق من قبل أعداءه ممعنة في القدم ، وليست مقتصرة على هولاكو و بوش ، فما أن يتم احتلال البلد حتى يقوم المحتلون بمزاولة هوايتهم البغيضة ، وهي الحرق والنهب و التدمير لكل ما يدلل على عمق تلك الحضارة ..
لن ندخل هنا في مناقشة فيما إذا كانت حضارة جزر بحر (إيجة ) وكريت و أنحاء من اليونان عربية الأصل *1 . ولا فيما إذا كانت وشائج القربى بين اليونان القدامى و الكنعانيين والفينيقيين والآراميين أكيدة أم لا ، وبين هؤلاء جميعا وبين سكان وادي الرافدين *2
وإن كانت بعض الكتابات تفصح عن ذلك الحقد ككتابة الباحث (هنري فرانكفورت ) الذي يريد قلب الأمور حيث يسقط الماضي على الحاضر وليس العكس فيقول : " وهكذا ، كانت المدن القديمة في ما بين النهرين تشبه مدن اليونان ومدن إيطاليا في عهد النهضة " *3
ومفكر آخر اسمه (رينيه ديسو ) حيث يقول : " أن الشرقيين رغم حدة ذكائهم ودماثة خلقهم وتجربتهم الطويلة القديمة لم يتمكنوا من الوصول الى تهذيب علم رياضي حقيقي وإرساء أصول الجبر ، ناسبا ذلك الى خضوعهم للآلهة " فترد عليه الباحثة (مارغريت روتن ) " إن الأمر لم يحد من معارفهم وإدراكهم ، بل أن البابليين (الكلدانيين) هم البادئون الأوائل ، بل معلمو اليونان ، وأنهم توصلوا منذ تلك العهود السحيقة في القدم الى مستوى لم يتخطه غيرهم إلا خطوة ، خطوة خلال عصور مديدة . وأن اليونانيين كانوا يضعون أنظمتهم من خلال اطلاعهم على من سبقهم ، في حين أن العراقيين كانوا مستقلين في أنظمتهم *4
يقول العلاَمة بارو (( في الوقت الذي كانت أوروبا ما تزال تعاني آلام معرفة الأصول المجردة للحياة الاجتماعية والفنية والسياسية ، كان الشرق الأدنى قد تجاوز من زمن طويل ، عتبة المدنية وقطع أيضا مراحل عديدة حقق فيها الإنسان الذي أكد سطوته تقدما وطيدا على طريق الحضارة . إنه الشرق .. ومن يستطيع أن ينكر بأن المعرفة قد جاءت من الشرق ؟))
ويواصل الكلام فيقول : (( لقد أولدت بلاد ما بين النهرين ووادي النيل أعظم حضارتين في العالم . والحديث عن أيهما ظهر بالأول ، لا يخدم سوى غرض ضئيل ، ولكن يبدو الآن محتملا بصفة عامة أن بلاد الرافدين سلكت الطريق بصفة أسرع قليلا ، وأنها وهبت في عصر متقدم أكثر مما أخذت )) *5
لقد سبق أهل الرافدين العالم وأثروا في كل حضاراته ، في علم الفلك والأساطير و طرق الكتابة ، فتأثر اليونانيون بملحمة (جلجامش ) وهذا جلي في (الإلياذة ) ل ( هوميروس ) ، كما أن التقويم الذي سائر في بلاد العالم حتى اليوم هو تقويم سومري قديم ، ويقول (كريمر) : ان أول تقويم زراعي وأول دستور للأدوية هو عراقي قديم .. كما أن تشريعات حمورابي قد أثرت بانتهاج سن القوانين في العالم الذي تلاهم ..
وسنختتم هذا البحث المتواضع بأناشيد من ملحمة (اينمر كار وارتا )
في سالف العصور لم يكن في الوجود حية ولم يكن فيه عقرب
لم يكن الضبع ولا كان السبع
لم يكن الكلب الوحش ولم يوجد ذئب
لم يكن هناك خوف ولا فزع
ولم يكن للإنسان منافس
وفي غابر الأزمان كانت بلاد (شوبر) و (همازي)
وبلاد (سومر) الكثيرة الألسن
البلد العظيم ذو النواميس المقدسة الخاصة بالإمارة
يا (سومر ) أيها البلد العظيم
يا أعظم بلد في العالم
لقد غمرتك الأضواء المستديمة
والناس من مشرق الشمس الى مغربها
هم طوع شرائعك المقدسة
إن شرائعك سامية لا يمكن إدراكها
وقلبك عميق لا يمكن سبر أغواره
إيه يا دار ( سومر ) .. *6
بدأعصر الزراعةفي بلاد الرافدين, وهو أول عهد للإنسان بتعلم الزراعة, بحدود سنة 9000 قبل الميلاد وتطور حوالي سنة 5500 ق.م. في قرية (جرمو) في شمالي العراق في أواسط العصر الحجري الحديث. ومن البديهي أن تكون الزراعة في ذلك الوقت محدودة وعلى نطاق ضيق جدا.
ثم بدأ فجر الحضارة في العراق بحدود سنة 5000 قبل الميلاد وانتهى بالحقبة الزمنية التي ابتدع فيها الإنسان العراقي الكتابة لأول مرة في تاريخ الإنسانية في الربع الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد. وإن نشوء الحضارة الناضجة في بلاد الرافدين قد سار بخطوات ثابتة وعلى مراحل وبأطوار متعاقبة.
عرفت تلك الأطوار في العراق للمختصين المحدثين بأسماء المدن والقرى والمواقع التي ظهرت فيها لأول مرة, ومدن الطور الأقدم هي: (حسونة) ثم (سامراء) و (حلف) و (العبيد) و (الوركاء) و أخيرا (جمدة نصر).
لقد شهد العراق خلال هذه الأطوار اتساع الزراعة و بداية الحياة الحضرية و نشوء أولى المدن. وعرف بناة الحضارة أيضا فن التعدين وابتدعوا دولاب الخزاف وصنعوا الآجر المفخور والعربة ذات العجلة وكذلك المحراث فضلا عن السفن الشراعية. وعرف في أوائل تلك الأطوار أيضا فن النحت, وظهرت كذلك المباني العامة كالمعابد حيث كثرت وازدادت أهميتها منذ طور (العبيد). وعرف طور الوركاء (3500 ق.م.) بالعهد الشبيه بالكتابي, ومن المعروف أن الكتابة قد أرسيت قواعدها تماما خلال الطور الذي أعقبه وهو (جمدة نصر) في حدود سنة 3000 ق.م.أولاً: عصر فجر السلالاتثم بدأ عصر فجر السلالات في العراق في حوالي سنة 2800 ق .م. واستمر لمدة ستة قرون والذي يعرف أيضا بالعصر السومري القديم أو بعصر دويلات المدن حيث لم تتوحد البلاد بعد تحت مملكة كبيرة واحدة. ويقسم العلماء هذه الحقبة الزمنية من تاريخ العراق إلى ثلاثة عصور هي على التوالي:
فجر السلالات الأول ( 2800 –2700 ق.م.)
فجر السلالات الثاني (2700 02600 ق.م.)
فجر السلالات الثالث (2600 – 2400 ق.م.)
من الأمور المتفق عليها بين غالبية العلماء المختصين في العصر الحاضر أن السومريين هم سكان العراق الأصليون، وأنهم الذين كانوا يعرفون بأصحاب حضارة العبيد في وسط وجنوب العراق وكانت أراضيهم تمتد جنوبا إلى جزيرة دلمون (البحرين) في العصر الحاضر قبل أن ترتفع مناسيب الخليج العربي ليصل إلى حدوده الحالية.
ولغة السومريين, وهم أصحاب أقدم حضارة أصيلة متطوّرة في العالم, من اللغات التي تعرف بالملتصقة Agglutinative. من خصائص الإلصاق فيها أنه كثيرا ما يدمج مفردتينن لتصبحا كلمة واحدة يستند معناها إلى معاني الكلمات الداخلة في تركيبها, مثل (لوكال) أي الملك المكونة من (لو) أي الرجل و (كال) أي العظيم, و (إي-كال) تعني القصر أو الهيكل مكونة من كلمة (إي) وهي البيت و(كال) العظيم. ثم أن الجمل فيها تتألف أيضا بطريقة إلصاق الضمائر والأدوات إلى جذر الفعل بحيث يصير الجميع كلمة واحدة.
لقد قسم علماء الآثار عصر فجر السلالات إلى ثلاثة أطوار: الأول ( 2800 –2700 ق.م.) والثاني (2700 02600 ق.م.) والثالث
(2600 – 2400 ق.م.). إن لكل من هذه الأطوار الثلاثة خصائصها المميزة. ومع ذلك يمكن القول عموما بأن فن العمارة قد قطع شأوا بعيدا في هذا العصر وبخاصة في بناء القصور والمعابد فظهرت العقود لأول مرة في البناء وكذلك القبوات كوسيلة في التسقيف. وتقدم فن التعدين وسبك المعادن, وقطع فن النحت شأوا بعيدا من التقدم.
لقد نضجت الكتابة وانتشر استعمالها في العصر السومري فدونت بها في عصر فجر السلالات السجلات الرسمية وأعمال الملوك والأمراء وعلاقتهم بغيرهم من الحكام. وكذلك شؤون الناس العامة كالمعاملات التجارية والأحوال الشخصية والمراسلات والآداب والأساطير فضلا عن الشؤون الدينية والعبادات.ثانياً: الحكم الأكديانتهى عهد فجر السلالات بقيام سرجون الأكدي (2371-2316 ق.م.) بتوحيد العراق في مملكة واحدة. كان سرجون من الأكديين وهم فرع من الأقوام التي نزحت من الوطن الأم شبه جزيرة العرب إلى العراق ربما في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل. وليس من المستبعد أن الأكديين قد عاشوا جنبا إلى جنب مع السومريين منذ أقدم العصور وعرف القسم الأوسط والجنوبي من العراق منذ ذلك الزمن باسم بلاد (سومر وأكد).
حكم مؤسس السلالة الأكدية سرجون خمسة وخمسين عاما أدخل خلالها الكثير من الإصلاحات على نظام الحكم والجيش بما في ذلك تطوير أساليب الحرب والسلاح. وكذلك حصل تقدم عظيم في العمارة والفنون بعامة التي تميزت في العصر الأكدي بالقوة والحيوية والحركة. ويعد (نرام - سين) أقوى ملوك السلالة لأاكدية الذي حكم زهاء أربعين عاما.
عّم الاضطراب في المملكة أواخر العهد الأكدي, فقد حكم بعد نرام - سين ملوك ضعاف مما شجع الأقوام الجبلية وهم الكوتيون, الذين عرفوا في النصوص المسمارية القديمة بأعداء الآلهة, على غزو بلاد (سومر وأكد). إن حكمهم الذي دام حوالي مائة سنة كان عهدا مظلما كادت أن تنقطع فيه عنا أخبار العراق القديم. وقد عوض عن ذلك ازدهار الحضارة في جنوبي العراق وبخاصة في مدينة (لكش) وما يجاورها. وقد اشتهر من بين الأمراء السومريين في أواخر هذا العهد أمير أو ملك اسمه (جودية) الذي عرف بتماثيله الكثيرة التي وصلتنا والذي عمل على إحياء الآداب السومرية وتشييد العديد من المعابد الفخمة.ثالثاً: الحكم السومريثارت على الكوتيين مدينة (الوركاء) بقيادة أميرها السومري (أوتو –حيكال) الذي لقّب نفسه بملك (سومر وأكد) وأهاب بأهل البلاد لحرب الطغاة الأجانب, فالتّفت حوله المدن وتمكن من القضاء على جموع الكوتيين الكبيرة وخلص البلاد منهم.
انتقل الحكم السومري بعد ذلك إلى مدينة (أور) وتكونت فيها سلالة عرفت بسلالة (أور الثالثة) أسسها الملك (أور- نمو) الذي تعد أيامه من عهود العراق المجيدة وآخر عهد في حياة السومريين السياسية (2113-2006ق.م.). لقد استطاع ملوك هذه السلالة الخمسة أن يعيدوا إنشاء إمبراطورية واسعة على غرار لإامبراطورية الأكدية شملت جزءا كبيرا من أقاليم الشرق الأدنى. وانتشرت مع التجارة والفتوح حضارة العراق القديم تماما كما كان عليه الحال في العصر الأكدي. لقد اشتهر ملوك هذه السلالة بأعمالهم العمرانية الفذّة وامتازت دولتهم بالتنظيم وحسن الإدارة في الداخل والخارج وأصبحت العاصمة (أور) في زمنهم قبلة الشرق القديم ليس من النواحي العمرانية والفنية والاقتصادية فحسب بل إنهم سنّوا الشرائع بحسب العرف الاجتماعي و وحّدوا الشؤون القضائية في البلاد.رابعاً: العصر البابلي القديموفي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد قامت في العراق أسرة حاكمة جديدة عرفت بسلالة بابل الأولى (1894 – 1595ق.م.) اشتهرت بملكها السادس حمورابي (1728 – 1686ق.م.) الذي جمعت في شخصه خصالا فذة جعلت منه القائد والسياسي والمصلح والمشرع فاستطاع بهذه الخصال أن يوحّد البلاد. ثم وقعت حرب ضروس بينه وبين الدخلاء العيلاميين أظهر خلالها حمورابي من حسن التدبير والحزم ما مكّنه من تمزيق جموعهم شر ممزق. ومدّ فتوحه بعد ذلك إلى شمالي بلاد الرافدين وإلى جهات الهلال الخصيب الأخرى. ومن أعماله المهمة سنّ شريعة واحدة تسري أحكامها في جميع أنحاء المملكة عرفت بقانون حمورابي التي تعد من أولى الشرائع المتكاملة في العالم حيث تجمع بين القانونين المدني والعقوبات فضلا عن الأحوال الشخصية.
إن أهم ما تمّيز به العصر البابلي القديم اتساع المدن وكثرتها, كما حدث تطوّر مهم في العلوم والمعارف البشرية حيث انتقلت من أطوارها العملية إلى طور التدوين والبحث بحيث يصح أن نعد بداية ظهور العلوم البشرية الحقة كانت في هذا العصر. ليس هذا فحسب بل إن الحضارة من بلاد الرافدين قد أخذت طريقها في العصر البابلي القديم إلى جميع أنحاء المشرق وإلى أطراف العالم القصية.خامساً: العصر البابلي الوسيطولقد غزت العراق في أواخر العصر البابلي القديم أقوام جاءت من الشرق أو من الشمال الشرقي عرفوا بالكشيين. أسسوا سلالة حاكمة جديدة دام حكمها زهاء خمسة قرون. وقد عرف هذا العهد بالعصر البابلي الوسيط الذي يعد من العصور المظلمة في العراق. لم يخلف لنا الكشيون وثائق أو سجلات تاريخية بلغتهم الأصلية وإنما استعملوا لغة بلاد بابل. ويبدو أنهم قد تخلّوا عن ديانتهم التي كانوا عليها ليعتنقوا الديانة البابلية. وقد أسسوا في منتصف عهدهم عاصمة جديدة قرب بغداد الحالية عرفت باسم (دور- كوريكالزو) أي مدينة الملك الكشي كوريكالزو.الأشوريونوصادف قيام السلالة الكشّية نمو المملكة الآشورية في القسم الشمالي من العراق. فبدؤوا ينازعون الكشيين زعامة البلاد السياسية. والآشوريون فرع من الأقوام الجزرية التي هاجرت في الأصل من شبه جزيرة العرب. وهناك نظرية أخرى مفادها أنهم جاؤا من جنوب العراق من أرض بابل وحلّوا في شمالي بلاد الرافدين في زمن لعله في العهد الأكدي ومما يدعم ذلك أنهم يتكلمون بلهجة من اللهجات البابلية. ويرى غالبية المختصين أن اسمهم مشتق من اسم معبودهم الإله (آشور).
ويمكن وضع تاريخ الآشوريين في ثلاثة عهود: القديم والوسيط والحديث.
العهد الآشوري القديموتدخل فيه حقب طويلة لاسيما إذا أدمجنا فيه عصور ما قبل التاريخ. لقد بدأ الآشوريون في هذا العهد ببناء مملكة قوية موحدة مستقلة, ظهر منهم ملوك أقوياء مثل (إيلو – شوما) الذي عاصر مؤسس سلالة بابل الأولى وكذلك شمشي أدد الأول (1814 – 1782 ق.م.) الذي بلغت المملكة في زمنه من القوة ما مكّنها من فرض سلطانها على القسم الشمالي من بلاد بابل.
ودأب الآشوريون على تنمية كيانهم السياسي, تعرضوا فيه إلى سلسلة من الامتحانات والمصاعب بسبب ضغط الدول والأقوام التي كانت تجاورهم, خرجوا من كل ذلك أشداء أقوياء إذ خلقت منهم قوة عسكرية رهيبة فرضت سلطانها على شعوب العالم القديم لعدة قرون تلت. ويعد شلمنصر الأول (1266 – 1243ق.م.) من أعظم ملوك هذا العهد سيما في حقل التوسع والفتوح الخارجية بعد أن توطدت شؤون المملكة الداخلية في عهده.
ولقد تدهورت الأوضاع الآشورية في أواسط القرن الثامن قبل الميلاد انتهت بثورة قامت بها مدينة (كالح) الآشورية على الملك (أشور – نراري) الخامس, فقتل وتولى زمام الأمور تيجلاتبليزر الثالث (745-727ق.م.) الذي بدأ عهدا جديدا في تاريخ الآشوريين تكونت فيه آخر وأعظم إمبراطورية آشورية حيث صارت فيه مجددا سيدة الشرق القديم, وكان من أعظم إنجازاتها توحيد بلاد بابل وآشور في مملكة واحدة.
الملك سرجون الثانييعد الملك سرجون الثاني (727 – 705 ق.م.) واحدا من أعظم ملوك هذه الحقبة ليس فقط بسبب إنجازاته الفنية والمعمارية العظيمة والتي كان منها تشييد عاصمة جديدة قرب نينوى أطلق عليها اسم (دور شروكين) أي مدينة سرجون والتي تعرف خرائبها بـ (خرساباد) في الوقت الحاضر. كما عرف بفتوحاته الخارجية العظيمة منها القضاء على المملكة اليهودية الشمالية (السامرة) بسنة 721 قبل الميلاد وترحيل الكثير من سكانها إلى أماكن أخرى داخل حدود الإمبراطورية الآشورية. وكذلك قضاؤه على التحالف بين الفراعنة والدويلات الصغيرة في فلسطين وسوريا, وكان المصريون قد أرسلوا جيشا قويا لمساعدة قوات التحالف. فتصادم الجيشان قرب مدينة رفح تمخّضت عن اندحار قوات التحالف وفرار القائد الفرعوني.
آشوربانيبالآشوربانيبال (668-626ق.م.) فيعدّ من أكثر ملوك هذا العهد ثقافة فقد أغرم بالأدب والمعرفة فجمع الكتب من أنحاء البلاد وخزنها في دار كتب وطنية خاصة شيّدها في عاصمته نينوى جمع فيها مختلف أصناف العلوم والمعارف التي بلغتها حضارة العراق والتي عّرفتنا بنواحي الحضارة العراقية القديمة المختلفة.
سادساً: العهد البابلي الحديثآخر العهود العراقية الزاهرة في العصور القديمة (626-539ق.م.). ويعد حكم نبوخذنصر الثاني (604-562ق.م.) بحق من العهود المجيدة في التاريخ البشري عموما وفترة انتعاش قوية عاشتها الحضارة البابلية, فلم تسجل الكتابات التي خلفها هذا الملك إلا أخبار البناء والتعمير في جميع مدن العراق المهمة. من أعماله العمرانية الرئيسة كان بناء الزقورة وتشييد عدد كبير من المعابد الفخمة في بابل. وكان من جملة إنجازاته في هذا الميدان أيضا إقامة شارع رائع عرف بشارع الموكب ومدخل مهيب ضخم يدعى بباب عشتار, يقع وراء هذا الباب قصره الفخم بجنائنه المعلّقة الذي عرف في المصادر اليونانية بإحدى عجائب الدنيا السبع.
وفي زمنه أعلنت دولة (يهودا) الصغيرة العصيان مع عدد من الدويلات الشامية الصغيرة الأخرى بتحريض من الفراعنة التي لم تكترث لنصائح النبي (ارميا) وتحذير ملكها (يوهوياقين) بوخامة العاقبة. فجرد نبوختنصر حملة تأديبية لم تقو (يهودا) على مقاومتها فسقطت العاصمة (أورشليم) في عام 596 ق.م. فرحّل قسم من سكانها ومعهم ملكهم عن فلسطين. ونصّب نبختنصر بدلا عنه عمه (صدقيا). وبعد بضع سنوات اشتركت (يهودا) في عصيان جديد وبتحريض من الفراعنة أيضا الذين حاولوا استرجاع مكانتهم في سوريا وفلسطين. لقد كان غضب الملك البابلي في هذه المرة عظيما فدمّر المدينة وأحرق الهيكل ورحّل من سكانها عددا كبيرا جدا إلى العراق واضعا بذلك حدا لمملكة يهودا. لقد وقع ذلك الحدث بسنة 594 ق.م.
خلف هذا الملك العظيم عدد من الملوك الضعاف وبخاصة آخرهم نبونائيد (555-539 ق.م.) فتدهورت الأوضاع في البلاد خلال عهودهم وانتهت تلك الإمبراطورية العظيمة بسقوط بابل على يد (كورش) ملك الإخمينيين بسنة 539 ق.م. وليعفى على حضارة العراق وتطمر علومه وأمجاده لقرون طويلة تلت.
..
..
..