لماذا مات المسيح على الصليب ؟
سؤالاً يبدو بسيطاً ولكن قد لا تكون تعرف أعماق الإجابة !
بدون هذا الموت لصار سرّ التدبير بالجسد بلا منفعة لنا .
القديس كيرلس السكندري [ 1 ] .
لم يمت المسيح لأنه كان مضطراً أن يموت ، لقد فعل كل شيء
باختياره طِوعاً ، موت المسيح وقيامته أدَّيا إلي :
1 – غفران الخطايا والمصالحة مع الله .
2 – التحرر من سلطان الموت .
3 – الوعد بتجديد العالم كله .
4 – القيامة العامة .
5 – النُصرة علي الشيطان وكل أسلحته .
6 – سحق الجحيم .
د . عدنان طرابلسي [ 2 ] .
لو لم يكن قد وُضع المسيح للموت ، ما كان يُمكن للموت أن يموت .
لقد انهزم الشيطان بذات نصرته ، لأن الشيطان فرح عندما خدع الإنسان الأول فطرحه في الموت ،
بخداعة الإنسان الأول قتله ، وبقتله الإنسان ( آدم ) الأخير فقد الأول
الذي في شباكه ، القديس أغسطينوس [ 3 ] .
طبيعتنا البشرية منذ السقوط دخل إليها الموت وانتشر
في كل طبيعتنا كسلطان وسلاح الخطية ، فيقول الكتاب ( النفس التي تخطئ هي تموت ..
( حزقيال 18: 4 ) .
ويقول القديس باسيليوس : إن الطبيعة البشرية هي حائط وقد هزته صدمة الخطية ، فمال
إلي السقوط ، ولا يمكن إعادة بنائه إلا بهدم ونقض بنيانه ، لذلك سمح الله أن يكون الموتالحسي ناقضاً
للحائط المُزعزع ليُعيد بناءه بالقيامة العامة إعادة وثيقه ومؤيده [ 4 ] .
ولكي يرفع الله حكم الموت هذا عن البشرية – التي حكمت به علي نفسها – فبتجسده وكابن الله
جمع البشرية في ذاته ، كما سبق وقلنا ، فقد ترك جسده هكذا بحيث يمكنه أن يعاني
الآلام البريئة والموت ، لأنه كما قلنا أراد أن يحسم مرهزيمتنا بعدل ، وكأول يبدأ بقيامته بالجسد
الذي وحده بعدم التألم وعدم الموت وعدم القابلية للفساد ، من أجل الجنس البشري كله هذا
الذي صار هو باكورته ، كما يقول ساويرس الانطاكي [ 5 ] .
ويُضيف أثناسيوس الرسولي : وهكذا إذ اتخذ جسداً مماثلاً لطبيعة أجسادنا ، وإذ كان
الجميع خاضعين للموت والفساد فقد بذل نفسه للموت عوضاً عن الجميع ،
وقدمه للآب ، كل هذا فعله من أجل محبته للبشر ،
أولاً : لكى إذ كان الجميع قد ماتوا فيه ، فإنه يُبطل
عن البشر ناموس الموت والفناء ، ذلك لأن سلطان الموت
قد استُنفد في جسد الرب ، فلا يعود للموت سلطان
على أجساد البشر ( المماثلة لجسد الرب ) .
ثانياً : وأيضًا فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم
من الموت بالجسد الذى جعله جسده الخاص ، وبنعمة القيامة
يبيد الموت منهم ، كما تبيد النار القش [ 6 ] .
ويقول إيريناؤس : ولأن الجميع اقتيدوا إلى الموت بسبب عصيان أبونا الأول ، آدم ،
كان مناسباً وضرورياً أن يَبُطل نير الموت بواسطة طاعة ذاك ، الذي صار إنساناً من أجلنا ،
وبسبب أن الموت ساد على الجسد ، كان من الضروري أن يُهزم الموت بواسطة الجسد
ويَخلُّص الإنسان من سطوته ، وهكذا صار الكلمة جسداً لكى بواسطة الجسد الذى
استعبدته الخطية ، يُخلّصنا ( المسيح )من الخطية كي لا نعود نُستعبد من الخطية ،
لذلك أخذ ربنا جسداً شبيهاً بجسد أبينا الأول ، لكى بجهاده – عوضاً
عن أبوينا الأولين – ينتصر على ذاك الذي في آدم
جرحنا جرحاً مُميتاً [ 7 ] ، [ 8 ] .
فدخول الرب إلي جسد وموته بهذا الجسد أصبح فخاً للموت به هزم الرب الموت
وسلب كل قوته ، ويقول كيرلس الأورشليمي : الرب تألم من أجلنا ، وما كان الشيطان
ليتجرأ أن يظهر له لو كان قد عرفه انه ابن الله .
لذلك فالجسد صار الصنارة التي اصطاد بها الموت ، حتي أن الحيه التي كانت
تُريد أن تبتلع هذا الجسد ، تقيأت ما سبق أن ابتلعته
( أي الناس الذين ماتوا قبل مجيء المخلص وانتهاء سلطان الموت ) [ 9 ] .
ويضيف أمبروسيوس : ( إذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً
في نفس الشيء لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت .
( عبرانيين 2: 14) .
وكيف يكون ذلك إلا بواسطة الجسد الذي به قد صار مشاركاً لنا ؟ ،
وبماذا شاركنا إلا بالموت الجسدي ؟ ، إنه كسر سلاسل الموت لأنه
باحتمال المسيح للموت حدث موت للموت [ 10 ] .
وهذا أيضاً ما قاله أغسطينوس : لقد هُزم الشيطان بذات نصرته .
بخداعة الإنسان الأول ذبحه ، وبذبحه للإنسان الأخير فقد الإنسان الأول من شبكته ! [ 11 ] .
ويُضيف القديس يوحنا فم الذهب : “ جرد الرئاسات والقوات بنفسه “ ، معناه أنه جرد
قوات الشيطان ، لأن الطبيعة البشرية كانت قد خضعت لها ، أو إن صح التعبير كان مفروضًا
عليها دَين ( صك ) ، فعندما صار إنساناًلم يكن مديناً بهذا الصك – لكن ما معنى
“ شَّهر بهم ” ؟ معناه أنه حقا قد شُهر بالشيطان الذي جعل من نفسه هُزءً وخزياً .
لأنه إذ توقع أن يظفر بالرب ، خسر حتى ما كان لديه ، وحينما سُمِّر الجسد ( المقدس )
على الصليب ، أقام الموتى ، هكذا تلقى الموت نفسه ضربة قاصمة من جسد ميت ،
وكبطلٍ مقدام ، وحينما عرف أنه طرح عدوه أرضاً ، وأمسك به بقبضة مميتة ،
( مات الموت ) هكذا كان موت المسيح إنما هو خزي للشيطان ، لم يختبر الملائكة شيئا
من هذا القبيل ، فقد قام هو بكل شيء لأجل هذا القصد ، مُظهِراً أن لموته إنجاز عظيم وقدير
– وكان إن صح التعبير – ثمة صراع واحد :
فقد جرحَ الموتُ المسيحَ – لكن المسيح المجروح أمات الموت [ 12 ] .
ويقول القديس مارإفرام : لقد جعل نفسه خاضعًا للموت حسب الجسد ، محتملاً
إيَّاه بإرادته ، حتى يكسرسلطان الموت بغير إرادته ( أي إرادة الموت ) !
حمل صليبه وسلك هكذا كما يريد الموت ، وعلى الصليب إذ صرخ أحضر الموت
بغير إرادته من الجحيم ! حمل النصرة على الموت ، في نفس اللحظة
التي فيها قتل الموت الرب ، وبنفس الوسيلة ( الصليب ) ! [ 13 ] .
هذه هي الثمرة التي حطمت الموت ، فإذ اِبتلعها مزقته ، وقدمت حياة لمن
أُرسلت إليهم ! ، وكما أنه متى اِضطربت معدة إنسان ، تقيَّأ ما بها من حلو ومرّ ،
هكذا إذ اِضطربت معدة الموت ، تقيأ “ دواء الحياة ” الذي اِشمئز
الموت منه ، كما خرج معه أولئك الذين تلذذ
الجحيم بوجودهم فيه ! [ 14 ] .
وبموت المُخَلِّص بالجسد أعطانا عربون القيامة في قيامته أيضاً من الموت وهي العلامة
الصارخة علي موت الموت وانقضاء سلطانه علي البشرية ، ويقول أغسطينوس :
نتمتع في آلام الرب وقيامته بالعبور من هذه الحياة القابلة للموت إلى الحياة الأخرى الخالدة ،
أي من الموت إلى الحياة [ 15 ] .
ويضيف القديس كيرلس السكندري : إن موت المسيح قلب الأمور بصورة غير متوقعه ،
لأن آلامه قد أُعدت كفخ لاصطياد الموت ، وموت الرب صار مصدر تجديد الجنس البشري
إلي عدم الفساد وجدة الحياة [ 16 ] .
ولأن الموت كان هو سلاح الخطية الفتاك ، فبموته بطل سلطان الخطية – نعم نخطئ –
لكن لم نعد نموت بخطايانا بل بمجرد العودة إلي الله المُعلن في وجه يسوع يُمحي
كل أثر لخطايانا ، كما يقول القديس كيرلس السكندري :
ماذا كان الأمر المملوء بالحكمة بالنسبة لنا وماذا
كانت مشيئة الآب المُخلصة ؟ كان هذا الآمر وتلك المشيئة أن يموت الموت
بموت المسيح عنا ، وهكذا تبطل الخطية ويهلك كل من تسبب فيها منذ خلقة الإنسان ،
أي الشيطان ، ويصير الخلاص الكل بواسطة دم المسيح الكريم .
ولهذا نجد أن الرسول يضيف قائلاً عن الابن :
( وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ
– إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ – يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ ،
لأَنَّهُ حَيْثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ يَلْزَمُ بَيَانُ مَوْتِ الْمُوصِي ، لأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَوْتَى ،
إِذْ لاَ قُوَّةَ لَهَا الْبَتَّةَ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيّاً ) [ 17 ] .
ويضيف القديس إكليمندس السكندري : الإنسان كان حراً ببساطته ، أصبح مقيداً بالخطايا ،
لذلك أراد الرب أن يحرره من القيود ( رباطات الظلم ) ، وبالتحافه بالجسد .
هزم الحيه وأسر الموت المستبد ، وأروع شيء عمله هو فك أسر الإنسان وتحريره
بعد أن كان أسيراً للفساد . ياللسرّالعظيم ! لقد تنازل الرب وارتفع الإنسان ،
الذي سقط من الفردوس يربح مكافأة أعظم ، إنها السماء عينها ! [ 18 ] .
ويضيف القديس أثناسيوس : وحينما صارت مشيئة الآب السمائي أن تُدفع الفدية
– الكفارة – عن الجميع ، لكي تُمنح النعمة للجميع ، لذلك أخذ الكلمة بالحق .
جسداً ترابياً ، لكي كرئيس كهنة يستطيع أن يقدِّم نفسه ( بجسده ) إلى الآب ويطهِّرنا
من الخطايا جميعاً في دمه [ 19 ] .
ويكمل قائلاً : فالعالم كان في ما سبق مُداناً ، وكان تحت القضاء والدينونة من قِبَل الناموس ،
وأمَّا الآن فقد وضع “ الكلمة ” على نفسه عقاب الدينونة هذه ،
وإذ تألَّم في الجسد من أجل الجميع منح الخلاص للجميع [ 20 ] .
وأخيراً فقد تساءل البعض قائلين :
كيف يُمكن لجسد بشري أن يهب لنا كل هذه الخيرات
أو يغلب الموت ؟ ويجيب ق . كيرلس عمود الدين قائلاً : يا أحبائي لتعلموا
أن لجسم المسيح تأثير في خلاص الإنسان ، لأن جسد الكلمة ،المسيح العظيم ،
هو جسم الحياة المتسربل بالقوّة والسلطان ، وكما أن الحديد إذا
مالمس النار بدت فيه مظاهر الناروقام بوظائف النار ، كذلك جسد الكلمة المسيح
تجلَّت فيه الحياة ، وكان له السلطان على محو الموت والفساد [ 21 ] .
لقد صلب الموت بإعطاء الحياة ، وجذب بذلك الإنسان بعيداً عن الدمار ورفعه إلي السموات .
القديس إكليمندس السكندري [ 22 ] .
-----------------------------------
[ 1 ] sur la l aux cor ., xv , 12 , pg . 74 , 897 .
دراسات في آباء الكنيسة للراهب باسيليوس المقاري .
ص 611
[ 2 ] سألتني فأجبتك ج 1 ص 547
[ 3 ] The Ascension, 263 الحب الإلهي . للأب تادرس يعقوب . ص 689
[ 4 ] القديس باسيليوس الكبير . ج 2 الرهبنة والنسك والحياة الفاضلة المقدسة .
الأب تادرس يعقوب مالطي . ص 610 . m.a.orphanos; creation and salvation according to st. basil of caesarea , Athens 19575 [ 5
مجمع خلقيدونية إعادة فحص ، مرجع سابق . ص 413 . lapolemique ….I , p. 70 [ 6 ] تجسد الكلمة 4:8
ترجمة د . جوزيف موريس فلتس ؛ إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية . ص22
[ 7 ] في هذه الفقرة لخص إيريناؤس جوهر تعليمه عن المسيح والخلاص ، فتجسد المسيح له المجد كان ضرورياً
لكى ينقل عدم الفساد إلى البشر ولكى يَبطُل الشر الآتي
من عصيان آدم ، وهذا الأمر قد شرحه فيما بعد القديس أثناسيوس في كتابه “ تجسد الكلمة ” :
[ لأن المخلّص تمّم بتأنسه عمليتي المحبة ] :
( أولاً ) : أنه أباد الموت من داخلنا وجدّدنا ثانية .
( ثانيًا ) : أنه إذ هو غير ظاهر ولا منظور ، فقد أعلن نفسه وعرّف ذاته بأعماله
في الجسد ، بأنه كلمة الآب ، [ ومدّبر وملك الكون ] تجسد الكلمة ، ( المرجع السابق ، 5:16 ) .
والقديس أمبروسيوس أسقف ميلان يصف لنا المسيح بأوصاف توضح نتائج التجسد بالنسبة لنا :
[ المسيح هو لنا كل شيء . إذا أردت أن تبرئ جرحك ، فهو الطبيب الشافي ؛
إذا أردت أن تروى عطشك الشديد ، فهو ينبوع الماء الحي ؛ إذا كنت في حاجة إلى معونة ،
فهو القوة الحية الفعّالة ؛ إذا كنت ترهب الموت ، فهو الحياة القاهرة للموت ؛ إذا كنت تخشى الظلام ،
فهو “ النور الحقيقي ” ؛ إذا كنت جوعانًا ، فهو قوت الحياة ] ، PL16, 305
[ 8 ] الكرازة الرسولية . ترجمة د . نصحي عبد الشهيد؛ د . جورج عوض ابراهيم . فقره 31
[ 9 ] دراسات في آباء الكنيسة . للراهب باسيليوس المقاري . ص 313
[ 10 ] القديس أمبروسيوس أسقف ميلان شرح الإيمان المسيحي مترجم عن :
N & PN Fathers 2 sertes vol. 10 p199 . ج 2 . 3 : 85 . ص 46
[11] Sermon 261:1 . الشيطان ونصرتنا عليه. الأب تادرس يعقوب مالطي . ص 304
[12] Homilies on Colossians, homily 6 .
المرجع السابق . ص 305
[13] الحب الالهي . للأب تادرس يعقوب مالطي ص 689
[14] المرجع السابق . ص 690
[ 15 ] Letters, 55 المرجع السابق ص 305
[ 16 ] شرح انجيل يوحنا ترجمة د . نصحي عبد الشهيد ، د . جوزيف موريس فلتس ،
إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية . ج 2 ص 467
[ 17 ] حوار حول الثالوث . الجزء الرابع الحوار الخامس . ترجمة د . جوزيف موريس فلتس ،
مترجم عن EIIE ., VOL .8 , P. 402 : 505 . إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية ص 10 ، 11
[ 18 ] grenstead , A short history of the doctrine of the atonement . p 28
[19 حقبه مضيئه في تاريخ الكنيسة ، مرجع سابق ص 656 نسخه الكترونيه .
Athanas. , C. Ar., II.7 [ 20
المرجع السابقص 658 نسخه الكترونيه . Athanas . , C. Ar., I, 60 [21
[ 21 عظه 36 . عن كتاب الحب الالهي للاب تادرس يعقوب .
[ 22 ] grenstead , A short history of the doctrine of the atonement . p 27