خطاب الهوية الليبرالية « الديموقراطي » يشرذم الأميركيين ويخسر الانتخابات !
الأربعاء 30 ـ 11 ـ 2016
بقلم / مارك *
لا شك في أن أميركا صارت أكثر تنوعاً , والزائرون من بلدان أخرى ينظرون بعين الإعجاب
الى قدرة بلدنا على دمج مجموعات دينية وإتنية متباينة دمجاً على وجه أمثل من نظيره
في أي أمة أوروبية أو آسيوية , ولكن ما أثر التنوع هذا على السياسة ؟
الجواب الليبرالي طوال جيل مفاده الدعوة الى إدراك التباين أو الاختلاف والاحتفاء به ,
ومثل هذا الاحتفاء مبدأ تعليمي أخلاقي عظيم ، ولكنه كارثي حين ينزل
في منزلة ركن السياسات الديموقراطية في عصرنا .
ففي السنوات الأخيرة , انزلقت الليبرالية الأميركية الى ذعر أخلاقي أو مبدئي في مسائل العرق
والجندر والهوية الجنسية , والذعر هذا شوّه رسالة الليبرالية وحال دون جعلها قوة قادرة على الحكم ,
وأبرز دروس الحملة الانتخابية الأميركية الأخيرة يقضي بطي عصر الهوية الليبرالية .
فهيلاري كلينتون بلغت ذروة الكفاءة حين تناولت المصالح الأميركية في الشؤون العالمية .
ولكن حين تناولت الحياة اليومية في أميركا , فقدت الرؤية الأوسع وانزلقت الى خطاب التنوع فحسب ,
وتوجهت الى الأفارقة – الأميركيين واللاتينيين ( الأميركيون من أصول مكسيكية وأميركية جنوبية ) ,
والنساء ، والمثليين والمثليات والمزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً .
والخطاب هذا غلطة استراتيجية , فإذا شاء المرء التوجه بالاسم الى المجموعات الأميركية .
يحسن به أن يتوجه اليها كلها وإلا شعر المستثنون بالإقصاء , على ما حصل مع طبقة العمال البيض
وأصحاب المعتقدات الدينية القوية . فثلثا الناخبين البيض من غير شهادة جامعية انتخبوا دونالد ترامب ,
شأن 80 في المئة من البيض الإنجيليين .
والانشغال بالتنوع في المدارس ووسائل الإعلام ولد جيلاً من الليبراليين والتقدميين النرجسيين الذين
لا يعرفون ما يجري خارج مجموعاتهم , ولا يأبهون بالتواصل مع الأميركيين في مسارات الحياة المختلفة .
ويشجع الأطفال على الكلام عن هوياتهم الفردية ، حتى قبل حيازتهم أو صوغهم واحدة .
وفي الجامعات , يفترضون أن خطاب الهوية يستنزف الخطاب السياسي أو أن الخطاب السياسي
يقتصر على خطاب الهوية , ولا تتصدر أولويات اهتماماتهم مسائل لا يستخف بها مثل الطبقات
والحرب والاقتصاد والمصلحة العامة , فمناهج التاريخ المدرسية تنظر الى التاريخ نظرة سياسة الهويات .
وهذه من بنات اليوم وليس الأمس , ولا شك في أن إنجازات حركات حقوق النساء كانت بالغة الأهمية ,
ولكن ليس في الإمكان فهم مثل هذه الحركات من دون فهم إنجازات الآباء المؤسسين :
إرساء نظام يحتكم الى ضمان الحقوق . وانتقلت عدوى افتتان وسائل الإعلام بتسليط الضوء
على دراما الهويات الى تغطية الشؤون الخارجية .
ولكن الاطلاع على مصير المتحولين جنسياً في مصر فحسب لن يطلع الأميركيين
على السياقات السياسية والدينية التي ستخلف أثراً راجحاً في مصير البلد هذا , وفي مصالحنا .
وأخفقت الليبرالية الهوياتية في السياسات الانتخابية .
فمدار السياسة الوطنية ليس « الاختلاف » بل المصالح المشتركة أو القواسم المشتركة .
ومن يسعه كسب خيال الأميركيين عن المصير المشترك هو من ستكون له الغلبة .
وهذا ما فعله رونالد ريغن (1981 - 1989) وبيل كلينتون ( 1993-2001 )
الذي سار على بعض تعليمات سلفه ريغن , فهو أبعد جناح الهوية في الحزب الديموقراطي ,
وصرف المساعي السياسية الى مشاريع محلية يستفيد منها الجميع ,
وحدد دور أميركا في عالم ما بعد 1989 , وهو فاز بولاية ثانية , فكان في مقدوره النزول
على مطالب مجموعات ائتلاف الديموقراطيين المختلفة , وسياسة الهويات تتوجه الى المشاعر والانفعالات
وليس الإقناع في متناولها , والفوز من طريقها بالانتخابات متعذر .
والتفسير الليبرالي لما حصل في الانتخابات الأميركية مفاده أن الفضل في فوز ترامب يعود
الى تحويله الأضرار الاقتصادية الى غضب عرقي ( توجيه مشاعر الخسارة الاقتصادية الى غضب عرقي ) .
وهذا تفسير يناسب الليبراليين. فهو يثبت تفوقهم الأخلاقي , ويسوغ إهمالهم ما قاله الناخبون وانشغالاتهم .
والتفسير هذا ينفخ في وهم أن اليمين الجمهوري آيل الى الانقراض السكاني في الأمد الطويل ,
وأن ما على الليبراليين سوى الانتظار قبل أن يؤول البلد اليهم .
ولكن مفاجأة ارتفاع نسب الاقتراع اللاتيني لترامب تعيد الى الأذهان أن طول بقاء جماعة إتنية
في البلاد، يعظم تنوعها السياسي , والكلام على رد البيض العنيف على تقدم حقوق السود
يعفي الليبراليين من إدراك أن هوسهم بالتنوع شجع البيض الريفيين والمتدينين على اعتبار أنفسهم
جماعة مهمشة هويتها مهددة , ولكن أمثال هؤلاء لا يردون على تنوع أميركا ، بل على خطاب الهوية .
وحري بالليبراليين ألا ينسوا أن أول حركة هوياتية في السياسة الأميركية كانت حركة
كو كلوكس كلان ( المعادية للسود ) , ومن يلعب لعبة الهوية عليه أن يعد للخسارة .
وتمس الحاجة الى ليبرالية ما بعد الهوية , وفي المتناول الاستناد الى الليبرالية ما قبل غلبة
خطاب الهوية , فتتوجه الى عامة الأميركيين بصفتهم هذه وتسلط الضوء على مسائل تشغل
شطراً راجحاً منهم . وخطاب ما بعد الهوية يتوجه الى الأمة على أنها أمة مواطنين .
* أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا ، عن « نيويورك تايمز » الأميركية .