لعل الحديث اليوم عن التنشئة المسيحية السليمة لأطفالنا بات ضرورة ملحة، وخصوصًا بعد العلمنة والتطور الهائل والتقنية الفذة الذي نعيشها، والهوة والفتور الاجتماعي الذي يتسع يومًا بعد يوم، والأفكار الدخيلة والغريبة التي تقتحم عالمنا، ونزيف الهجرة المستمر بحثا عن ملاذ ومرفئ سلام واستقرار.
وما من تدهور في الأخلاق والقيم، وما من فتور في الإيمان إلا ليعزى سببه إلى أسس التربية والإرشاد السهو والتبشير الضئيل الذي نختبره اليوم. إننا نهتم ونحاول أن نلحق بعجلة التقدم ومواكبة العصر وتحدياته، ونخطط لحياتنا الأفضل، مع ذلك نتغاضى عن الجزء الأهم فيها وهو تربية أطفالنا وتنشئتهم مسيحيًا وتنميتهم سلوكيًا وأخلاقيًا. فماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر أولاده. او ماذا يعطي الانسان فداء عن أولاده.
للأطفال مكانتهم العظيمة في الكتاب المقدس، فهم "إكليل الشيوخ" (أمثال 17: 6)، والبنون هم "كفروع زيتون حول المائدة" (مزمور 128: 3)، ولقد أعد اللـه لنفسه تسبحة من فم الأطفال والرضع (مز8: 2-3)، كما أن الرب يسوع بيّن أن لمثلهم دخول الملكوت وباركهم، وكذلك إنهم رمزًا حقيقيًا للتلاميذ. وكي لا نسمح لأطفالنا بأن يكونوا كريشة في مهب الريح بدت ضرورة التربية والتنشئة المسيحية السليمة كمقومات أساسية في بناء سلوكية الطفل وتحديد مساره في المستقبل، وهذا ما يؤكد عليه أيضًا الرسول بولس في دور الأم على سبيل المثال في التربية: "ولكنها ستخلص بولادة الاولاد ان ثبتن في الايمان والمحبة والقداسة مع التعقل (1تي 2: 15)".
إن تنشئة الأطفال وتربيتهم هي اللبنة الأولى والأهم في بناء المجتمع، وكذلك ضرورة تدارك الأخطاء التربوية الشائعة التي نشأت عليها المجتمعات الشرقية. كما أن تشكيل سلوك الأطفال وشخصيتهم وحق التربية لا يقع على عاتق الوالدين فحسب بل المجتمع بأكمله، لكن بالتأكيد يُعد دورهم الأهم والأكبر بحسب العلاقة والوقت الذي يمضيه الطفل بين ذويه. لذا قسمنا حيوية وفعّالية التربية عامة والتنشئة المسيحية خاصة حسب الأدوار الآتية:
أ) دور الوالدين
حق التربية يرجع إليهم، "وانتم ايها الاباء لا تغيظوا اولادكم بل ربوهم بتاديب الرب وانذاره" (أفسس6: 4)، فالهدف من التربية الحازمة وتأديب الوالدين هو معاونة اولادهم على النضج وليس لأذيتهم أو تثبيط هممهم، فالمعاملة السيئة للأطفال هي السبب الرئيسي في قتل روح الإبداع والتفكير لدى الأطفال، وانتشار المشاكل التي نعاني منها الآن من أمية وجهل وإنحلال الأخلاق. تربية الأولاد ليست أمرًا هيناً، فهي تستلزم صبرًا كثيرًا لتنشئتهم تنشئة ملؤها المحبة وإكرام المسيح. لذا نلخص أهم المعوقات التي تواجه تربية الأطفال وسبل تجنبها نحو حيوية نموهم السليم:
1. إنعدام ثقافة التشجيع والتأنيب لدى الأولياء، فمن المفروض تشجيع الطفل عند القيام بأي خطوة، ويكون لديه حافز لزيادة التفكير والإبداع، وفى حالة الوقوع فى الخطأ من المهم تأنيبه ومعاقبته، ويكون العقاب ليس بالقسوة التى يُعامل بها الأطفال الآن. هناك قول مأثور لمارتن لوثر عن التشجيع والتأنيب: "صحيح أنك إذا استغنيت عن العصا فانك تفسد الطفل، ولكن ضع تفاحة إلى جوار العصا لتعطيها له عندما يُحسن". التوبيخ والتأديب هم ضروريات أحيانا في التربية السليمة لكن حاول ان تشعره بأنه اساس التوبيخ هو المحبة، وأن التوبيخ يخص السلوك فقط.
2. الإساءة إلى الأطفال بمنعهم عن أمور بحجة إنها كانت غير مسموحة في عهد الوالدين، ناسين بأن الأمور تتغير، وان عادات جيل من الأجيال ليست هي عادات الجيل الآخر.
3. افتقاد مشاركة الأطفال فى الأعمال المنزلية بحجة صغر سنهم، وتلبية كل احتياجات الطفل، وعدم مشاركة الأطفال فى تحمل المسئولية، مما يعود عليهم مستقبلا. فإعطاء الوالدين الطفل الإحساس بذاته، وأنه له قيمة منذ طفولته، ومشاركته مع الأسرة فى كل الأعمال المرتبطة بالمنزل، لها مردود كبير في اعتماده على ذاته وثقته بالنفس.
4. على الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم في منظور الحياة المسيحية: "كن قدوة للمؤمنين فى الكلام فى التصرف فى المحبة فى الروح فى الإيمان فى الطهارة" (1تى 12:4). فلا يكفي أن نعلم لأبنائنا حقيقة إيماننا بل أن نعيش تلك الحقيقة أمامهم. وتجنب أن يكون التعليم يُلقن فقط، أو أفكار تفسر. بل أن تكون حياة معاشة من قبل الوالدين. فالمسيحية هي حياة يعيشها الآباء فليتقطها منهم الأبناء، لينقلوها بدورهم إلى الأحفاد.
5. قصور اهتمام الأولياء على الأمور الجسدية والمادية، الحياة ليست مأكل وملبس ووظيفة و...... فإن قمتم بهذا فقط، فأي فضل تصنعون، أليس العالم كله يفعل هذا أيضًا. كونوا أنتم كاملين أيضًا كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.
6. على الأولياء أن يكون أمناء وصبورين ومثالا أعلى للمحبة لدرجة تتألق فيها التضحيات بصورة مستمرة، فالوالدين هم وكلاء عن اللـه وأداة في يده لتربية أبناءه.
7. لا يقتصر عمل الوالدين بأن يعرفوا أبنائهم بالكنيسة، بل أن يعيشوا ويحاولوا أن ينقلوا إلى ابنائهم الانتماء الحقيقي لحياة الكنيسة الطاهرة في داخلهم.
8. غرس في الأبناء الفضائل والقيم الاخلاقية واختبار طاعتهم لها. بعض الأولياء يشتمون ويسبّون ويستخدمون كلمات بذيئة وينتظرون من أولادهم أن يفعلوا الحسنات وأن يكونوا قويمي اللسان.
9. تعريف الأبناء وإرشادهم إلى كلمة اللـه وبمنهاج مدروس مخصص لأعمارهم. "وانك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة ان تحكمك للخلاص بالايمان الذي في المسيح يسوع" (2تيمو3: 15)، "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتاديب الذي في البر. لكي يكون انسان الله كاملا متاهبا لكل عمل صالح" (2تيمو 3: 16-17).
10. توفير وخلق الأجواء الملائمة لتأسيس العلاقة المتينة وحضور اللـه وحلول روحه القدوس في قلوبهم، كتعليمهم الصلاة حتى إن كانت بأبسط الصور، المهم أن نُشعرهم بعمق الكلمات التي ننطقها. "ولتكن هذه الكلمات التي انا اوصيك بها اليوم على قلبك. وقصها على اولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم" (تثنية6: 6-7)
11. الأوامر والنواهي ليست هي دائمًا ما تجعل أبنائنا يطيعوننا ويحبوننا. فعلى الوالدين أن يقدموا في شخصهم الصديق الذي يصغي ويُرشد ويوجه الطفل ويعيش أحاسيسه ومشاكله، وكذلك يشاركه في كل أنشطته حتى ولو كانت بسيطة فهذا يسعده ويعطيه الثقة في نفسه. يستطيع الأطفال تفسير معالم الحب من ملامح الوجه ونبرة الصوت ورقة التعامل واسلوب المحادثة، وكلما لجأ الوالدين إلى أساليب القهر والضغط للحصول على طاعة الطفل كلما أدى ذلك إلى سيطرة سلبية وزرع التعاسة في نفسية الطفل وعدم الآمان.
12. للأسف الكثير من الأولياء ينشغلون بأنفسهم بتحقيق طموحاتهم وينسون مشاكل أبنائهم. والبعض الآخر يترك مسئولية التربية على عاتق الزوجة وحدها. تربية الطفل لا يمكن أن تتم من طرف واحد، فكلا الطرفين، الأب والأم مسئولين ويكمل أحدهم دور الآخر في تربية وتنشئة أطفالهم. لذا ينبغي مراعاة والحرص على حسن العلاقة والتفاهم الجليّ بين الزوجين أمام الطفل، فهذا سيكون له الأثر الإيجابي في غرس السلام الداخلي والطمأنينة والاستقرار في نفسية الطفل. كما أن التفاهم بين الوالدين على الأساليب التربوية والاتفاق عليها قدر الإمكان يسهل من تطبيق المفاهيم التربوية والأخلاقية التي يطمح الوالدين أن يغرساها في شخصية أطفالهم. على الوالدين تجنب قدر الإمكان أثر اختلاف مواقفهم أو وجهة نظرهم في مواضيع تخص أسرتهم امام أطفالهم، وأن يناقشا أمورهم على انفراد بعيدًا عن مسمع أولادهم.
13. لا يستطيع الوالدين تعريف أطفالهم بالمسيح مالم يعرفوا المسيح شخصيًا، فالتعليم الحقيقي ينبع دائمًا من الخبرة الحقيقية، وكذلك الحياة بالمسيح لا تقتصر فقط على معرفة الحق، بل تشمل أيضًا أن تعمل الحق.
ب) دور الكنيسة
على الكنيسة أن تسأل نفسها دائمًا: "ماذا نحاول أن نفعل لأبنائنا؟ وماذا نعلم أولادنا؟"، ونلخصها بالتالي:
1. يشدّد الكثير على دور الكنيسة الفعّال في تقويم سلوك الأطفال الروحي وتعميق كلمة اللـه في حياتهم، وإمدادهم بالتعليم الكتابي الضروري لتنشئتهم روحيًا مما يجعل منهم أعضاء صالحين وفعّالين في الكنيسة مستقبلا. لذا على الكنيسة أن تتجدد بأفكارها وتصور نفسها كالأم التي تحتضن أبنائها وتعزز روح المحبة بينهم وتجهزهم بالغذاء الروحي. الكنيسة المتجددة والتي تقوّم مسارها دائمًا وتعايش روح العصر وضرورياته هي الكنيسة الأقرب إلى قلوب الأطفال. وهذا لا يعني تغيير العقيدة أو المساس بروح الإيمان القويم، بل تغيير المنهاج والسلوك بما يناسب لغة العصر ومتطلباته، لا أن تجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، ويحصل الانشقاق.
2. إن إرساء مبادئ التربية والتعليم المسيحي للأطفال والتشديد عليه ودعمه بكل السبل هو من أهم الأعمال التي على الكنيسة القيام بها، وهذا ما يتطلب إعداد كادر تعليمي مؤمن أولا وذو معرفة وخبرة بالكتاب المقدس ثانيا، وحبذا كان من الأكاديميين لمن تسنى لهم الدراسة اللاهوتية والفلسفية، لا أن يكون التعليم تلقينا فقط لم سمع الفرد في صغره ونسخه في الأطفال دون أن ينبع من المعرفة والخبرة الشخصية.
3. التكثير من النشاطات الترفيهية للأطفال والتي تتضمن في محتواها وجوهرها أيضًا كلمة اللـه وبأسلوب يجعل الطفل لا يحسّ بالملل او الضجر أثناء المشاركة فيها. هذا ما يجعل الطفل يعيش طفولته في الكنيسة وفي نفس الوقت تتوفر الفرصة له بالتقرب من الكنيسة وأفكارها دون أن يشعر بنوع من التعقيد أو الإكراه على التعليم.
4. التقاليد الكنسية والطقوس هي ذخائر نفيسة على الكنيسة الحفاظ عليها بالتأكيد، لكن ليس على حساب جذب الأطفال وتقريبهم من الكنيسة، وهذا للأسف ما نشهده في معظم الكنائس التقليدية. وكما أسلفنا سابقا فكما أن لكل عصر حضارته، كذلك العبادة تتغير حسب سلوك ذلك العصر ومنطقه، وذلك لأجل تتميم مشيئة اللـه في حياتنا. فاللـه لا يتغير في جوهره وطبيعته لكن البشر في طبيعتهم ومحيطهم متغيرون، ولا نستطيع مطلقا أن نلتزم بطقوس لا تنطق بمفاهيم وحياة لا نعيشها اليوم، لكن بالتأكيد نستطيع الاستفادة من خبرة تلك الطقوس ونترجم منها طقوس عبادة جديدة والاستفادة من الحضارة التقنية (صوتية وصورية) ودمجهم سوية لتستطيع أن تقدم ما عجز عنه الماضي بتقديمه.
5. إن التوفيق بين دور الأهل والكنيسة في التربية المسيحية ضروري جدًا مما يعزز الإيمان في قلب الطفل، لا أن يعيش الطفل حياة بعيدة تمامًا عن مشيئة اللـه في البيت ويظن الوالدين بأن دور الكنيسة سيفي بغرض التعليم المسيحي لأطفالهم. هذا يجعل الطفل يعيش دوامة صراع مستمر مع مبادئ يتعلمها من أحد الطرفين (العائلة أو الكنيسة) ولا يعيشها أو يجدها في الطرف الآخر. إن على دور الوالدين أن يكون دورًا تشجيعيًا تحفيزيًا نحو الكنيسة، ودور الكنيسة سيكون بالتالي دورًا تجاذبيًا يرسي ويثبت المبادئ التي تعلموها في البيت وتعمقها بالمعرفة والعلم وبشكل منهجي.
6. على الكنيسة أن تحث الوالدين خلال الوعظات أو من خلال اللقاءات العائلية على دورهم في تربية وتنشئة وتعليم أطفالهم، وجعل مسيحيتهم فعل وحياة وخبرة عملية. والتشديد على نقطة أساسية في حياتهم وهي أن الأبوة الأرضية هي صورة الأبوة السماوية، وعلى الأولياء أن يتشبهوا بمحبة ورحمة وحنان الآب السماوي تجاه البشرية كلها كذلك هم لأبنائهم.
ج) دور المجتمع
إن للمجتمع والبيئة والمحيط الذي يعيش فيه الطفل تأثير عميق وفعّال في حياته وتكوّن شخصيته، فالإنسان منذ نعومة أظفاره يتأثر وينفعل بما يجري حوله من ممارسات. فيكتسب مزاجه وأخلاقه والكثير من ممارساته من المحيط أو البيئة التي يعيش فيها. فالمدرسة، الأصدقاء، المجتمع ووسائله الإعلامية وعاداته واسلوب حياته، الأثر المباشر والكبير على سلوك الطفل وكيفية تفكيره.
قد يظن البعض بأننا نستطيع التغاضي عن دور المجتمع في تنشئة أبنائنا روحيًا، وذلك بقوقعتهم وتقليص علاقتهم مع المحيط الخارجي قدر الإمكان. وهذا ما يزرع حب الفضول في الأطفال وانفرادهم في اختبار ممارسات وعادات غير سليمة دون دراية الأولياء ومراقبتهم عن كثب. كما أن منح الحرية بإفراط قد يُعد من أهم المخاطر التي تواجه الطفل لدى اختلاطه بالمحيط الخارجي، حيث إن إمكانية الطفل في السيطرة على الحرية الزائدة محدودة، لذا لا ينبغي أن يُمنح الحرية التي هي فوق قدرته في التعامل.
إن فلذات أكبادنا هم بذار، إن أحسنا رعايتها وتسميدها، والكدّ في زرعها وإنمائها، والاجتهاد في مداراتها، كانت شجرة وافرة الظل نستظل ونقطف حلو ثمارها...