جلستُ كعصفورة مكسورة الجناحين، أراقب عصفورين حُرَّين مُنِحا الحق في أن يتمتعا بمشاركة بعضهما في بناء عشهما الصغير.
كان الأول يلتقط القشّ من سلّة مُلقاة على سطح بيت وشريكته تتناوله منه، تُرتّبه بفرح وتغنّي بنغمات صوتها العذب وهي تصنع لهما العشّ الجميل.
مشهدٌ أعاد ذكرى مؤلمة إلى قلبي المكسور، فأنا إنسانة حرّة ومع ذلك جُرِّدت من حريتها ومن قدرتها على بناء عشّها الصغير، وصنع مملكتها الخاصة التي طالما حلمت بها كما تحلم بها أي فتاة.
كنت قد التقيت الشاب الذي أحببت، التقت أعيننا وقلبينا، رسمنا قصة حبنّا وخطة حياتنا معاً، صوّرنا في الخيال عشّنا الصغير وبدأنا نعيش تلك الرحلة التي يعيشها الآن هذان العصفوران الحرّان، رحلة تأسيس الأسرة والبيت. تمّت خطبتنا ومَشَينا درباً طويلة تحدّينا الصعاب والإعياء والرغبة بالاستسلام أمام عائلتينا التي كان لهما اختيار آخر، إذ أرادتا أن ترسما حياتهما فينا نحن. في البداية كانت أفكارنا هي التي تحرّكنا، لكن ما لبثنا أن رضخنا ورضينا لهم، قبِلنا كل شيء ونفّذنا أفكارهم، كانت أحلامنا والآن باتت أحلام حماتي ووالدتي، كانت خططنا والآن صارت خطط والدي ووالد خطيبي. لماذا رضخنا ورضينا؟ لأنَّ الصورة التي حلمنا بها كانت أكبر وأنقى من تحدّيات الواقع، قلنا المهم أنّ حُبّنا موجود وكل أمر يهون. ولكن هل اتفقت عائلتينا معاً، ووصلتا إلى قرار مشترك؟ لا، بل تحوّل بناء البيت الصغير إلى جبهة حرب، كنا نحن أول ضحاياها. فأتى ذلك اليوم بعد سنتين من الصراع، يوم خارت فيه قوانا وارتخت أقدامنا وانحنى رأسينا وتحجّر قلبينا، فخلعنا ذلك الخاتم الذي شهد على رباطنا، وقررنا العودة كل واحد إلى عش والديه، قررنا وقف نبض شريان حياتنا المشترك. ومن يومها تحوّلتُ إلى تلك الفتاة التي توجَّه إليها أصابع الاتهام، وكأني ارتكبت خطيئة شنيعة، لا تغفر، أصبحتُ عاراً يُبعد الشبّان عن التفكير بي. غدوت أرى نفسي لا أستحق شيئاً، في كل مرة أغادر منزلي أمرّ بشارعي خجلةً مكسورة، أسمع وألاحظ تلميحات الناس، أجلس بينهم ضئيلة منحنية. لم أعد أشعر بأني فتاة محبوبة مرغوبة، لأني بتُّ سلعة مستهلكة، من يشتريها سيدفع ثمناً أقل ليقتنيها، لماذا؟ لأن سبق لي أن خُطبت وفُسخت خطوبتي. فهل عشتِ حالاً كحالي صديقتي؟ وهل تألّمت مثلما تألمت؟ هل ضغطت عليك الظروف وسارت بك درباً كالتي سِرتها؟ أتشعرين معي ويعتصر الحزن قلبك كقلبي؟
ترى لِما العالم قاسٍ معناً إلى هذه الدرجة؟ لِما يريد أن يسرق حياتنا وينتزع دنيانا منا؟. أنا وأنت ضحية وهو وغيره ضحية، كلّنا ضحايا عدم ثقة أهلنا بنا وبقدراتنا، ضحايا عدم إعطائنا الحق في اختيار ما نريد. لذلك أدعوكِ أن تلصقي كتفك بكتفي، لنصنع جداراً من التمرد، تعالي لنصرخ معاً أمامهم ونمنعهم من احتكار حريتنا وسرقة أحلامنا. تعالي لنصرخ بحُبّ، رفضاً لاستغلالٍ يحيط بنا بسبب قِيَم مجتمعنا الخاطئة، قِيَم وضعتنا في قوالب صارت قنابل موقوتة تريد تدميرنا وقتل الحب الذي يغيّرنا.
أنا كنت منحنية نعم، لكن حياتي لم تنته عندما خلعت خاتمي ولن تنتهي حياتك أيضاً، أنت تتألمين اليوم، لكن تذكري بأنَّ هذا لن يكسرك. تشددي في أحشائك فمن لا يقبل التضحية لأجلك لا يستحقك ولا يستحق قضاء لحظات وسنين عمرك معه، من لا يتحدى الصعوبات لأجلك لا يمكنه أن يسندك كي تبني أنت وهو جيلاً يغيّر الواقع الذي نعيشه، من لا يحبك كفاية قبل الارتباط بك، لن يكون قادراً على إكمال درب الشراكة معك، لا تذرفي دموعك هدراً على قرار يبدو في ظاهره قد أنهى حياتك، لكنه في باطنه لم ينهها بل حصنها من مرارة كنت ستحصدينها بعد الزواج. العلاقة المثمرة صديقتي تبدأ قبل الخطوبة، إن لم ينضج حبكما خلالها ويُثمِر ويحملكما إلى تلك اللحظة التي تنطقا فيها عهد زواجكما، إن لم يكن قادراً على الثّبات في وجه العواصف، فلن تكون النهاية سعيدة ومثمرة كما حلمت بها. لذا، استقيمي ولا تنحني، انطلقي في مسيرتك ولا تدفني نفسك تحت ثقل مشاعرك، ومشاعر المحيطين بك، انفضي عنك غبار العالم وارسمي بيدك عالمك وابدئي من جديد.