مقدّمة عامة
في
الأناجيل الأربعة
1. كلمة "إنجيل"
لكي نتعرّف عن السبب الذي لأجله دعت الكنيسة الأسفار الأربعة الأولى من العهد الجديد بالأناجيل المقدّسة، يليق بنا أن نعرف ماذا تعني كلمة "الإنجيل" في ذهن الكنيسة الأولى.
كلمة "إنجيل" مشتقّة عن الكلمة اليونانيّة "إيفانجيليون"، والتي حملت في الأصل معانٍ كثيرة، منها:
أ. من الناحية اللّغويّة تعني المكافأة التي تقدّم لرسول من أجل رسالته السارّة، ثم صارت تطلق على الأخبار السارّة عينها. كما جاء في 2 صم4: 10 (الترجمة السبعينيّة) "إن الذي أخبرني قائلاً هوذا قد مات شاول وكان في عينيّ نفسه كمن يقدّم لي أخبارًا سارّة (إنجيلا)"، وجاءت في 1 صم31: 9 (الترجمة السبعينيّة) عن أخبار النصر المفرحة، وفي إر 20: 15 (الترجمة السبعينيّة) عن ميلاد طفل.
ب. استخدمت أيضًا في صيغة الجمع لتعني تقدمة شكر للآلهة من أجل الأخبار السارّة.
ج. استخدمت عن يوم ميلاد الإمبراطور الروماني أوغسطس كبدء أخبار سارّة للعالم.
د. استخدمت في سفر إشعياء في الترجمة السبعينيّة عن الأخبار السارّة الخاصة بمجيء الممسوح من قبل الله لخلاص شعبه: "على جبل عال اصعدي يا مبشرّة (مقدّمة الإنجيل) لصهيون" (إش 40: 9)؛ "ما أجمل على الجبال قدميّ المبشّر المخبر بالسلام (المخبر بإنجيل السلام)، المبشّر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إش52: 7).
هـ. أمّا في العهد الجديد فقد احتلّت الكلمة مركزًا أساسيًا بكونها تعبّر عن الرسالة المسيحيّة في مجملها (مر1: 1؛ 1كو15: 1)، فإن الملكوت الذي أعلنه السيّد المسيح هو "بشارة الملكوت أو إنجيل الملكوت" (مت4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14). وقد تكرّرت هذه الكلمة 72 مرّة في العهد الجديد، منها 54 مرّة في رسائل بولس الرسول، لتعبّر عن أخبار الخلاص المفرحة التي قدّمها لنا الله في ابنه يسوع المسيح ليدخل بنا إلى حصن أبيه بروحه القدّوس.
ارتبطت كلمة "إنجيل" ببعض الأسماء أو الكلمات مثل:
أولاً: إنجيل الله (مر1: 14-15؛ 1تس2: 2، 8-9)، فإنه البشارة التي تُعلن طبيعة الله كمحب للبشر، مقدّمة منه لأجل خلاصنا. لقد تصور بعض الغنوسيّين أن الله غضوب ومؤدب قاسِ أمّا المسيح فهو محب ومفرح، لهذا أراد الكتاب المقدّس تأكيد البشارة المفرحة أنها بشارة الآب معلنة في ابنه. ولهذا السبب عينه كان السيّد المسيح يؤكّد أنه جاء يتمّم مشيئة الآب.
ثانيًا: إنجيل يسوع المسيح (مر1: 1؛ 2كو4: 4؛ 9: 13؛ 10: 14). إن كان الابن قد جاء ليُعلن محبّة الآب لنا، فهو يحمل ذات الحب؛ إنجيل الآب هو إنجيل الابن، يدخل بنا إلى الاتّحاد مع الله في ابنه.
ثالثًا: أحيانًا يستخدم الرسول بولس التعبير "إنجيلي" أو "إنجيلنا" (2كو4: 3؛ 1تس1: 5؛ 2تس2: 14). غاية الإنجيل هو الإنسان، إذ يريد الله أن ننعم به ونعيشه، فإن كان هو هبة إلهيّة لكنّه مقدّم للإنسان ليقبله ويؤمن به (مر1: 15)، ويعلنه للآخرين (رو15: 19؛ 1كو9: 14، 18؛ 2كو10: 14؛ 11: 7؛ غل2: 2) ويخدمه (رو1: 1؛ 15: 16؛ في1: 12؛ 2: 22؛ 4: 3؛ 1تس3: 2)، وندافع عنه (في1: 7، 17) بحياتنا الداخليّة وكلماتنا وسلوكنا العملي فلا نكون عائقين له (1كو9: 12) بهذا يحمل الإنجيل ليس حبًا منفردًا من الله نحو الإنسان، وإنما حبًا مشتركًا بين الله والإنسان، فيه لا يقف الإنسان سلبيًا أو جامدًا، بل إيجابيًا ومتحرّكًا بغير انقطاع ليصير على مثال خالقه.
رابعًا: إنجيل جميع الناس (مر13: 10؛ 16: 15؛ أع15: 7)، فلا تقف حدوده عند اليهود، بل يضمّ كل لسان وجنس وأمة، ليتعرّف الكل على الله، ويتمتّعون بالاتّحاد معه، وينعمون بحقِّه في الميراث الأبدي.
بهذا نفهم الإنجيل ليس كتابًا نقرأه أو فلسفة نعتنقها، لكنّه حب إلهي فعّال يقدّمه الآب في ابنه يسوع المسيح ربّنا لينطلق بالنفس البشريّة إلى حضن الآب تنعم به معلنة حبّها له وإيمانها به، وهي في هذا تنطلق للكرازة به والشهادة له أمام الجميع بلا عائق.
أخيرًا فقد قدّم لنا الرسول بولس صفات ربطها بالإنجيل، تكشف لنا عن فاعليّته في حياتنا. دعاه "إنجيل خلاصنا" (أف1: 13) حيث ننعم بغفران خطايانا ونتبرّر من سلطانها لنحيا بروح النصرة والغلبة. و"إنجيل السلام" (أف6: 15) حيث يدخل بنا إلى السلام الداخلي بين النفس والجسد خلال مصالحتنا مع الله والناس فيه. كما قال "نوال موعده في المسيح بالإنجيل" (أف3: 6)، ففيه تتحقّق مواعيد الله لنا في ابنه. وفي اختصار، بالإنجيل نلتقي بالسيّد المسيح القائم من الأموات الذي يهبنا الرجاء والخلود والميراث ويمتّعنا لا بعطايا إلهيّة فحسب بل بالله ذاته!
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تفسير كلمة "إنجيل" كأخبار مفرحة بقوله:
[نعم، لأنه عفو عن العقوبة، وغفران للخطايا، وتبرير وتقدّيس وخلاص (1كو1: 30)، وتبنّي، وميراث السماوات، ودخول في علاقة مع ابن الله الذي جاء ليُعلن (ذلك) للكل: للأعداء والصالبين وللجالسين في الظلمة.
أي شيء يعادل مثل هذه الأخبار المفرحة؟! فقد صار الله على الأرض، وصار الإنسان في السماء، واختلط الكل معًا.
اختلطت الملائكة مع صفوف البشر، وصار البشر في صحبة الملائكة والقوات العلويّة الأخرى.
هوذا الإنسان يرى الحرب الطويلة قد انتهت، وتحقّقت المصالحة بين الله وطبيعتنا. صار إبليس في خزي، وهربت الشيّاطين، وباد الموت، وانفتح الفردوس، وزالت اللعنة، ونُزعت الخطيّة من الطريق.
زال الخطأ وعاد الحق وبُذرت كلمة التقوى في الموضع وترعرعت، وأقيم نظام السمائيّين (العلويّين) على الأرض، ودخلت هذه القوات معنا في معاملات آمنة، وصارت الملائكة تردّد على الأرض باستمرار، وفاض الرجاء في الأمور العتيدة بغزارة.]
2. أهمّية الأناجيل
إن كانت الكنيسة قد عاشت أكثر من عشرين عامًا بعد حلول الروح القدس يوم البنطقستي بلا إنجيل مكتوب لكنها عاشت الإنجيل ومارسته كحياة فائقة في المسيح يسوع، فلماذا لم تبقَ الكنيسة عبر العصور تعيش إنجيلها المُسلّم شفاهًا؟! هل من ضرورة للإنجيل المكتوب؟
أ. يقول D. Guthrie أن التقليد الشفوي كان له أهميته الخاصة في الكنيسة وبّخاصة في الشرّق، وقد جاء الإنجيل المكتوب لا ليحتل مكان التقليد، إنّما ليكمّله ويؤكّده. فالإنجيل يحفظ التقليد بلا انحراف، والتقليد يفرز الأناجيل القانونيّة ويحفظها بلا تحريف ويكشف عن مفاهيمها. فلا تعرف الكنيسة الثنائية، إنّما تعرف إنجيلاً واحدًا سواء سُلّم إليها بالتقليد الشفوي أولاً بالكتابة، تعيشه في أفكارها وعبادتها وسلوكها كحياة معاشة. بهذا تلقفت الكنيسة الإنجيل ليؤكّد حياتها الإنجيليّة المسلّمة إليها والمعاشة.
ب. للأناجيل أهميتها، خاصة بين أسفار الكتاب المقدّس كله، لأنها قدّمت لنا حياة السيّد المسيح على الأرض، هذا الذي هو مشتهى الأمم، مخلّص الكنيسة وعريسها، وموضوع لهجها ليلاً ونهارًا. لكن ما نوَد تأكيده أن الأناجيل ليست سجّلاً تاريخيًا يعرض حياة biography السيّد المسيح، إنّما قدّم ما هو أعمق من التاريخ، قدّم لنا "شخص المسيح" لنقبله فينا ونحيا به ومعه، نشاركه آلامه وأمجاده؛ لهذا ركزت الأناجيل على فترة وجيزة من حياته واحتلت أحداث الأسبوع الأخير من دخوله إلى أورشليم حتى قيامته حوالي ثلث إنجيل مار مرقس وأقل من الثلث بقليل في بقيّة الأناجيل.
ج. إذ كان المسيحيّون في القرنين الأول والثاني يترقّبون المجيء الأخير للسيّد المسيح، تلقّفوا الأناجيل بشوق شديد بكونها الطريق الممهّد لباروسيّا الرب أو مجيئه الأخير.
د. من جهة الكرازة بين اليهود والأمم، كان الكارزون غالبًا ما يعتمدون على التعليم شفاهًا، لكن ما أن كان يُظهر الموعوظ رغبته في الإيمان ويبدأ يتساءل عن شخص السيّد المسيح، إلاّ وكانت الأناجيل (وهي وثائق رسوليّة أصليّة) تجيب على سؤالهم هذا. كأن الأناجيل جاءت كشهادة حق تستخدمها الكنيسة في الكرازة والتعليم خاصة بين الموعوظين.
يرى D. Guthrie أن الأناجيل لم تقف عند الدور الكرازي والتعليمي، وإنما جاءت لتقوم بدور رئيسي في حياة الكنيسة التعبّديّة. إذ كانت الكنيسة تجتمع للعبادة استخدمت أجزاء من العهد القديم للقراءة والتسبيح، خاصة الفصول التي تتحدّث عن السيّد المسيح، لكن المؤمنين كانوا في حاجة إلى وثائق رسوليّة تتحدّث عن حياة السيّد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وموته وقيامته، تُعلن تحقيق ما ورد في العهد القديم، تدخل في العبادة المسيحيّة كعنصر أساسي فيها.
بهذا تكون الأناجيل قد تلقفتها الكنيسة الأولى بفرحٍ شديدٍ، وتمسّكت بها، بكونها تؤكّد الإنجيل المسلّم إليها شفاهًا، وبكونها المصدر الرسولي للكشف عن حياة السيّد وأعماله الخلاصيّة، تهيئهم لمجيئه الأخير، تسندهم في الشهادة له بين الموعوظين وتقوم بدور رئيسي في عبادتهم الليتورجيّة.
3. الأناجيل في الكنيسة الأولى
قبلت الكنيسة الأولى الأناجيل المقدّسة منذ البداية كأسفار قانونيّة مكمّلة لأسفار العهد القديم مع بقيّة أسفار العهد الجديد، وعلى نفس المستوى، بكونها جزءً لا يتجزأ من الكتاب المقدّس.
ففي القرن الثاني يُعلن القدّيس إيريناؤس على وجود أربعة أناجيل رابطًا إيّاها بأربعة جهات المسكونة، والأربعة رياح الرئيسيّة، والأربعة وجوه للكاروبيم، قائلاً:
[لم يكن ممكنًا أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل ممّا هي عليه في العدد. فإنه إذ يوجد أربعة أركان للعالم الذي نعيش فيه وأربعة رياح رئيسيّة، وقد انتشرت المسيحيّة في العالم كله، ولما كان الإنجيل هو عمود الكنيسة وقاعدته (1تي3: 15) وروح الحياة، بهذا كان من اللائق أن يوجد للكنيسة أربعة أعمدة فتتنسّم عدم الفساد من كل ناحية، وتنعش البشريّة أيضًا. خلال هذه الحقيقة واضح أن الكلمة خالق الكل والجالس على الشاروبيم، وضابط الجميع إذ أعلن عن نفسه للبشر قدّم لنا الإنجيل تحت أربعة أشكال إذ كان مرتبطًا بروح واحد. وكما يقول داود متوسّلاً إلى حضرته "أيها الجالس على الشاروبيم اِشرق" (مز80: 1)، إذ للشاروبيم أيضًا أربعة وجوه لها شكل التدبير الخاص بابن الله.
يقول الكتاب "إن المخلوقات الأربعة الحيّة الأول مثل الأسد" (رؤ4: 7) فيرمز لعمله الفعّال وسموّه وسلطانه الملوكي.
والثاني مثل الثور يُشير إلى تدبيره الذبيحي والكهنوتي.
والثالث له شبه وجه إنسان شهادة لوصف مجيئه كإنسان.
والرابع مثل نسر طائر يُشير إلى عطيّة الروح الذي يرفرف بجناحيّه على الكنيسة.
لهذا تتفق الأناجيل مع هذه الأمور، التي يجلس المسيح يسوع في وسطها.]
أما القدّيس إكليمنضس السكندري وإن كان قد اقتبس فقرات من "إنجيل المصريّين" لكنّه ميّز بينه وبين الأناجيل الأربعة القانونيّة.
أما العلاّمة ترتليان فلم يقتبس إلا من الأناجيل الأربعة القانونيّة، ودافع بشدة عن كتابتها بواسطة الرسل أو من هم ملتصقون بهم تمامًا.
استخدم القدّيسان إكليمنضس الروماني وأغناطيوس الأنطاكي مادة الأناجيل وإن كان بدون التزام بالنص حرفيًا. وجاءت رسالة القدّيس بوليكربس تحوي مطابقات مع الأناجيل.
4. الحاجة إلى أربعة أناجيل
وجود أربعة أناجيل خلق مشكلتين، إحداهما قديمة لاهوتيّة تدور حول التساؤل عن سرّ وجود أربعة أناجيل وعدم الاكتفاء بإنجيل واحد، والثانية حديثة ظهرت في الغرب تخص الثلاثة أناجيل الأولى متّى ومرقس ولوقا حيث تظهر فيها مواد متشابهة وأخرى غير متشابهة، بهذا يمكن تفريغها في ثلاثة أعمدة متوازية للمطابقة فيما بينها، فتساءل بعض الدارسين عن سرّ التشابه، وكيف كُتبت هذه الأناجيل، ومصادرها الخ. وقد سُميّت بالمشكلة التكامليّة أو الإزائية أو السينوبتك Synoptic Problem.
أولاً: المشكلة اللاهوتيّة
منذ القديم ظهر هذا التساؤل: ما الحاجة إلى وجود أربعة أناجيل؟ أمّا كان يكفي وجود إنجيل واحد يضمّ ما ورد في هذه الأناجيل الأربعة؟ ففي القرن الثاني حاول تاتيان Tatian أن يضمّ الأناجيل الأربعة في كتاب واحد اسماه "الرباعي Diatessarton" (أربعة في واحد)، لكن الكنيسة لم تقبل هذا العمل، فإنه ليس غاية الإنجيل جمع وترتيب مادة عن حياة السيّد المسيح على الأرض، لكن غايته الشهادة بطرق مختلفة ومتكاملة عن حقيقة واحدة، يقدّمها الروح القدس نفسه كأسفار قانونيّة، أي بكونها كلمة الله المعصومة من الخطأ. فالكنيسة تعتزّ بالأناجيل معًا ككلمة الله الحيّة والفعّالة، التي وضعها الروح القدس لتعليمنا وتهذيبنا بطريقة فائقة. لهذا لم يهتمّ الآباء بتجميع ما ورد في الأناجيل وترتيبها تاريخيًا، بقدر ما اهتموا بالكشف عن أعماق ما حمله كل إنجيل من سرّ حياة خفي وراء كلماته، وفي نفس الوقت تحدّثوا عن اتفاق الإنجيليّين معًا في الأحداث، موضّحين ما يبدو للبعض من وجود تعارض، كما فعل القدّيس أغسطينوس في كتابه عن اتفاق البشيرين De consensu evanglistarum.
تحدّث العلاّمة أوريجينوس في القرن الثاني عن اتفاق الأناجيل الأربعة معًا ومع بقيّة الأسفار بالرغم من عرض الحقيقة في كل سفر من جانب غير الآخر، مشبّهًا الكتاب المقدّس بالقيثارة الواحدة ذات الأوتار المتنوّعة لتقديم سيمفونيّة جميلة ومتناسقة، إذ يقول: [كما أن كل وتر من أوتار القيثارة يعطي صوتًا معينًا خاصًا به يبدو مختلفًا عن الآخر، فيظن الإنسان غير الموسيقي والجاهل لأصول الانسجام الموسيقي أن الأوتار غير منسجمة معًا لأنها تعطي أصوات مختلفة، هكذا الذين ليس لهم دراية في سماع انسجام الله في الكتب المقدّسة يظنون أن العهد القديم غير متّفق مع الجديد أو الأنبياء مع الشريعة أو الأناجيل مع بعضها البعض أو مع بقيّة الرسل. أما المتعلّم موسيقى الله كرجل حكيم في القول والفعل يُحسب داود الآخر، إذ بمهارة تفسيره يجلب أنغام موسيقى الله متعلمًا من هذا في الوقت المناسب أن يضرب على الأوتار، تارة على أوتار الناموس وأخرى على أوتار الأناجيل منسجمة مع الأولى، فأوتار الأنبياء. وعندما تتطلّب الحكمة يضرب على الأوتار الرسوليّة المنسجمة مع النبويّة كما في الأناجيل. فالكتاب المقدّس هو آلة الله الواحدة الكاملة والمنسجمة معًا، تعطي خلال الأصوات المتباينة صوت الخلاص الواحد للراغبين في التعليم، هذه القيثارة التي تبطل عمل كل روح شرّير وتقاومه كما حدث مع داود الموسيقار في تهدئة الروح الشرّير الذي كان يتعب شاول (1 صم 16: 14).]
نستطيع أن نقول أن الوحي الإلهي قدّم لنا إنجيلاً واحدًا هو إنجيل ربّنا يسوع المسيح بواسطة الإنجيليّين الأربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، كلٌ يكشف عن جانب من جوانب هذا الإنجيل الواحد. وكأنه باللؤلؤة التي يُعلن عنها كل منهم من زاوية معيّنة. فمعلّمنا متّى إذ يكتب لليهود يقدّم لنا السيّد المسيح بكونه المسيّا الملك الذي فيه تحقّقت النبوّات وكمل الناموس. جاء ليملك قينا، ونحن نملك معه في السماويّات. ومعلّمنا مرقس إذ كتب للرومان أبرز شخص السيّد المسيح من الجانب العملي، صانع المعجزات وغالب قوى الشيطان، فلا يقدّم الكثير من كلمات السيّد وعظاته، إنّما يقدّم أعماله لأنه يحدّث رجال حرب عنفاء (الرومان). أمّا لوقا البشير فإذ يكتب إلى أصحاب الفلسفات والحكمة البشريّة، أي اليونان، فيقدّم السيّد المسيح كصديق البشريّة، الذي جاء ليخلّص لا بالفلسفات الجديدة، وإنما بالحب الباذل. أخيرًا فإن يوحنا البشير إذ يكتب للعالم كلّه يُعلن السيّد المسيح الكلمة الإلهي المتجسّد، الذي حلّ بيننا لكيّ يرفعنا إليه في سماواته.