القديس كيرلّس الإسكندري
يُعتبر القديس كيرلس أسقف الإسكندرية من أهمّ أساقفة هذه المدينة و لاهوتييها بعد القديس أثناسيوس الكبير, وهو المدافع الاكبر عن العقيدة الأرثوذكسية في القرن الخامس, إذ إنه هو الذي حارب البدعة النسطورية التي كانت ترفض القول بأن مريم هي حقاً والدة الإله, فدحض تعليمها وأكّد على كون مريم قد ولدت الإله نفسه الموجود منذ الأزل.
وُلد كيرلّس في الإسكندرية حوالى سنة 380, ولّي أسقفية الإسكندرية في السنة 412 وكان عمره 32 سنة ورقد بالربّ في السنة 444. ألّف كثيراً في حقل اللاهوت, فكتب في التفسير والعقيدة (وفي أغلبها كتابات جلدية) ما يوازي المجلّدات العشرة. من أهمّ مؤلفاته في الكتاب المقدس: تفسير كتاب إشعياء, تفسير كتب الأنبياء الإثني عشر وتفسير إنجيل يوحنا؛ وفي العقيدة: ضد نسطوريوس, في الإيمان الأرثوذكسي, ضد يوليانوس الجاحد؛ كما وصلنا من كتاباته 29 موعظة فصحية. في كتاباته التفسيرية نكهة خاصة لا نجدها عند غيره من المفسّرين, فهو يفهم الآية الفاتحة لإنجيل يوحنا: " في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله" بأن المقصود ب "البدء" في الآية هو الله الآب, أي أن الكلمة في الآب. الجدير ذكره أنه لا يوجد شيء من مؤلفاته, رغم أهميتها, في اللغة العربية.
في السنة 428 انتُخب نسطوريوس أسقفا على القسطنطينية, فتخوّف من استعمال لقب " والدة الإله" الذي كان يُطلق على مريم, معتبراً أن هذا اللقب قد يبدو كأنه رفضٌ لبشرية يسوع أو قبول للقائلين بأن يسوع إنّما هو إلهٌ مخلوق, واقترح نسطوريوس إطلاق لقب " والدة المسيح" على مريم بدلاً من لقب والة الإله. فتصدّى لتعليمه القدّيس كيرلّس وحذّره من الاستمرار في هذا الضلال واتهمه بالهرطقة وأطلق ضدّه اثنا عشر حرماً. ورأى كيرلّس في رفض إطلاق لقب والدة الإله على مريم رفضاً لتجسّد الإله وإنكاراً لبشريته الكاملة, وتالياً رفضاً للقول بأن المسيح شخصٌ واحد في طبيعتين تامّتين: إلهية وإنسانية. يقول قدّيسنا:" إنه يمكننا القول إن ابن الله وُلد من مريم, ونعني بذلك انه وُلد منها بحسب الطبيعة البشرية, كما يمكننا القول إن ابن مريم قد خلق الكون, ونعني بذلك أنه خلقه بحسب طبيعته الإلهية", لهذا نستطيع من دون تردّد إطلاق لقب والدة الإله على مربم.
يوضح كيرلّس هذا الموقف من لقب والدة الإله؛ فيقول: "مريم هي والدة الإله, لا لأنها خلقت الله, أو لأنها خلقت شخص ابن الله, اذ إن هذا الشخص كائن منذ الأزل مع الله وهو الذي خلق مريم, بل لأن هذا الشخص الذي أعطته جسداً, وحملته في أحشائها مدّة تسعة أشهر ثمّ ولدته, هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الله والذي صار منها إنسانا ً".ويقول أيضاً: " ليس الإنسان الذي ولدته مريم إنسانا ً عادياً، إنما هو ابن الله الذي صار إنساناً, لذا فهي والدة الرب ّووالدة الإله". وفي رسالة إلى رهبان مصر يقول مدافعاً عن صحة إطلاق لقب والدة الإله على مريم: " هل يجب تسمية مريم بوالدة الإله؟ بلا ريب, لأنها حملت وولدت الإله الكلمة الذي صار إنساناً. هذا اللقب موجود في التقليد وقد قبله كلّ الآباء الأرثوذكس في الشرق وفي الغرب ".
انتهى هذا الصراع بانتصار العقيدة الأرثوذكسية في مجمع أفسس (المسكوني الثالث) الذي انعقد في السنة 431 وبإقرار الكنيسة الجامعة بصحّة القول إن مريم هي والدة الإله الذي صار واحداً مع الجسد بحسب الطبيعة، فإننا ندعوها والدة الإله".
الإيمان بتجسد الإله، بالنسبة إلى كيرلّس، هو ركن من أركان الخلاص, إذ إنه لا حياة أبديّة لو لم يتجسد ابن الله. ذلك أنه يقول: "منذ أن اتّخذ الكلمة جسداً, انطفأ في الجسد سمّ الحيّة, وقوّة الشر أُزيلت منه, وقضي على الموت الذي نتج من الخطيئة...لقد أخذ الكلمة جسداً مخلوقاً وقابلاً للموت, وبما أنه الخالق جدّده وألّهه في ذاته, ليقودنا جميعاً على مثاله إلى ملكوت السموات". تعيّد له الكنيسة المقدّسة مع القدّيس أثناسيوس الكبير في الثامن عشر من كانون الثاني، وفي التاسع من حزيران.