ولادة منصور ونشأته
وُلِدَ منصور، المعروف في شرقنا باسم "مار منصور"، في قرية "بوي" من مقاطعة "اللاند" الفرنسيَّة في الرابع والعشرين من نيسان في العام 1581. كان منصور الصغير يرعى الغنم والبقر بصحبة والده التقيّ "جان دي بول". علّمته الطبيعة روح التواضع، فأحبّ النفوس البسيطة. وأحبّ الفلاّحين والفقراء. كان في العاشرة من عمره عندما صادف في أحد الأيّام فقيراً معوزاً، فأعطاه كلّ ما يملك من المال، ثلاثين فرنكاً. وهذه تضحية كبيرة يقوم بها راعي بقر زمن كان المال شحيحاً.
دخل منصور المدرسة في الثانية عشرة من عمره، وبعد ثلاث سنوات استطاع أن ينجز تعلّم قواعد اللغتَين الفرنسيَّة واللاتينيَّة بتفوّق. لمّا علم عمّه الكاهن بتفوّقه في الدراسة أراد أن يختبر معارفه فوجده مجدّاً عارفاً كلّ شيء. فاصطحبه معه إلى المشافي ليختبر محبّته، فرآه متأثّراً برؤية المرضى يحنّ عليهم ويغسل جراحهم ويستمع برأفة إلى همومهم. فقال الكاهن لابن أخيه: "أتعلم يا عزيزي بأنّ كلّ مريض يمثّل السيّد المسيح". فأجابه منصور: "لقد رأيت المسيح! نعم رأيته يتألّم على فراش المرض". حينئذٍ أيقن العمّ الكاهن أنّ ابن أخيه "منصور" مدعوّ إلى الكهنوت وسيكون حتماً تلميذاً نجيباً للسيّد المسيح.
دعوة منصور إلى الكهنوت
سمع منصور صَوت الربّ يدعوه إلى الكهنوت فاندفع بدون تردّد إلى تلبية النداء. دخل الإكليريكيَّة بقلب مفعم بالمحبّة وبرغبة قويَّة، فانكبّ على الدرس وممارسة الفضائل حتّى حصل على الدرجات الكهنوتيَّة الأولى وهو في السادسة عشرة من عمره. ثمّ دخل جامعة "تولوز" حيث تابع دراسته اللاهوتيَّة. رُسم شمّاساً في العام 1598 ثمّ كاهناً في العام 1600 وكان في العشرين من عمره. احتفل الأب منصور بقدّاسه الأوّل في كنيسة منفردة متواضعة في وسط غابة اعتاد أن يزورها عند حداثته للصلاة والتأمّل.
الأب منصور في الأسر
بدأ الأب منصور رسالته الكهنوتيَّة بكلّ حماسة وتقوى، لكنّه بمقتضى العقليَّة السائدة في عصره كان عليه أن يجد عملاً يدرّ عليه مالاً ليصبح قادراً على إعالة نَفْسه وذَويه. عاش هذا الكاهن الجديد في صراع هائل بين المال والجاه من جهة، وخدمة المحرومين والمتألّمين من جهة أُخرى. كانت أبواب امتلاك الثروة واحتلال المناصب الرفيعة مفتوحة على مصراعيها أمام الأب منصور، لكنّ إخوته أبناء شعبه كانوا يرزحون تحت وطأة الجوع والمرض. فجثا أمام المصلوب ناشداً النُور والإلهام والقوّة.
عاد الأب منصور إلى "تولوز" فعلم أنّ إحدى السّيدات قد جعلته وارثاً لها، لكنّ أحد مديونيها هرب إلى "مرسيليا" فتبعه إلى أن وجده وأرغمه على تسديد ما عليه. وفي طريق العودة سَلك طريق البحر على متن باخرة تعرّضت لعمليَّة قرصنة، فقُتل مَن قُتل وأُسر مَن أُسر وكان من بين الأسرى الأب منصور الذي نقله القراصنة إلى مدينة تونس وعرضوه للبيع مع سائر العبيد. فاشتراه صيّاد سمك تونسيّ، ولكن سرعان ما تخلّى عنه، لأنّ البحر كان يضايقه ويسبّب له الدوران. فباعه إلى رجل عجوز متضلّع من عِلم الكيمياء. أحبّ الكيميائيّ "الأب منصور" حُـبّاً جمّاً فعلّمه الشيء الكثير من أسرار مهنته لكنّ العجوز المسكين باعه إلى أحد المزارعين ليعمل في حقله. كان الأب منصور طوال فترة العبوديَّة يطلب معونة الله وشفاعة العذراء مريم، فاستجاب الله لدعائه. وفي حزيران من العام 1607 هرب المزارع إلى فرنسا لأنّه أُرغم على نكران دِينه وصحبه الأب منصور الذي أصبح حرّاً طليقاً.
الأب منصور مرشداً روحيّاً في البلاط الملكيّ
نظراً إلى صيت هذا الكاهن العطر عيّنه الملك "هنري" الرابع مرشداً لزوجته "مرغريت". استفاد الأب منصور من هذا المنصب وطلب من الملكة أن توزّع الحسنات على العديد من البؤساء الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة والمنسيَّة.
وفي باريس أهداه أحد المحسنين مبلغاً كبيراً من المال فقدّمه حالاً إلى "مستشفى المحبّة" متذكّراً قول السيّد المسيح: "إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبعْ ما تملكه ووزّع ثمنه على الفقراء، فيكون لك كنـز في السماوات وتعالَ اتبعني" (متّى 19/21). لم تهبط القداسة على الأب منصور دفعة واحدة، بل كان ينمو في القداسة شيئاً فشيئاً وصولاً إلى الذروة.
في العام 1610 حدثٌ مرعبٌ هزّ فرنسا بأسرها، هو اغتيال الملك هنري الرابع عن يد شابّ متهوّر طعنه في عرض الشارع بسكّين. فارتقى العرش ابنه الصغير لويس الثالث عشر. وكان الأب منصور المرشد الروحيّ لهذا الملك الصغير، وهذا ما دفعه إلى القيام بإصلاحات دِينيَّة لأنّ الجهل كان منتشراً والنفوس مهملة والناس في أغلبيّتهم لا يعرفون حقائق الِدين المسيحيّ ولا واجباتهم الِدينيَّة.
الأب منصور خوري رعيَّة
عُيّن الأب منصور في العام 1612 خوري رعيَّة في ضاحية من ضواحي باريس تُدعى "كليشي". فعمل على ترميم الكنيسة، وتدريس التعليم المسيحيّ، ومساعدة الفقراء وتأسيس مدرسة مجّانيَّة.
وفي العام 1613 ترك الأب منصور "كليشي" وذهب إلى قصر "آل دي غوندي" ليكون مربّياً ومرشداً روحيّاً للأولاد. لكنّه سرعان ما تخلّى عن وظيفته هذه والتحق مرّة ثانية برعيَّة "كليشي". فكان يتجوّل من بيت إلى بيت ليداوي الناس جسدّياً وروحيّاً، فاستأثر بقلوب الجميع، فانقلبت الضاحية رأساً على عقب، وأصبحت "كليشي" نموذجاً لكلّ رعيَّة.
التحق الأب منصور مجدّداً بقصر "آل دي غوندي" ليكون مرشداً للقرى التي تمتلكها العائلة. فرسم لنَفْسه خريطة القرى وراح يزورها الواحدة تلو الأُخرى. وكان منذ العام 1617 لا يترك القرية قبل أن يؤسّس فيها "أخويَّة المحبّة" التي غايتها خدمة المرضى الفقراء جسديّاً وروحيّاً.
الأب منصور مرشداً روحيّاً للسفن الحربيَّة
عُيّن الأب منصور وبناءً على طلبه، في شهر شباط من العام 1619، مرشداً روحيّاً عامّاً للسفن الحربيَّة الفرنسيَّة برتبة ضابط. كانت البحريَّة الملكيَّة بحاجة إلى جذّافين، ولمّا كان هذا العمل شاقّاً أصبح التطوّع شبه معدوم. فاستعملوا المحكومين يداً عاملة مجّانيَّة وطيّعة. وبناءً على أوامر من السُلطات العُليا، اعتاد القضاة أن يحكموا على الناس لأتفه المخالفات بالعمل على السفن الحربيَّة كجذّافين لعدّة سنوات.
في إحدى الليالي الباردة سمع الأب منصور أحد هؤلاء المحكومين يبكي ويقول: "لا يوجد إله في العالَم" ففاجأه الكاهن القدَّيس بقوله: "أيّ جرم ارتكبت؟"، فأجاب: "لقد اشتركت في تهريب الملح فحكم عليّ بثلاث سنوات في الأعمال الشاقة. إنّ أُسرتي كبيرة ولا مُعيلَ لها غيري. آه لو كان الله موجوداً لما سمح بمثل هذه الأحكام". صمت الأب منصور برهة، ثمّ أردف قائلاً: "يا بُنيّ، إنّ الله موجود حّقاً وستراه بأُمّ عينيك". فنادى الحارس وطلب إليه أن يحلّ هو مكان المحكوم، فتردّد الحارس ولكنّ أوامر الكاهن وهو ضابط في البحريَّة نُفّذت بسرعة. فارتدى الأب منصور ثوب المحكوم وأصبح اسمه "المجذّف رقم 61782"! فارتمى الشابّ على الأرض يُقبّل قدَمي الكاهن القدَّيس قائلاً: "أنت كالمسيح معلَّمك، حملت خطيئتي وخلّصتني". فمانعه الأب منصور بقوله: "بل أنا أخ لك، ووجدت فيك سمات المسيح المتألّم". ذهب السجين وكأنّه في حلم غريب وهو يردّد: "نعم، إنّ الله موجود".
لم يتألّم الأب منصور طوال حياته مثلما تألّم في هذا العمل الشاقّ، فقد ذاق العذاب مدّة ثلاثة أشهر حتّى أصبح هيكلاً عظميّاً. ولمّا كشف أحد الضبّاط أمره قال له: "ماذا تفعل هنا أيها الأب المحترم؟". أجابه: "أنا السجين رقم 61782". ولمّا تأكّد الضابط منه وعرف قصّته قال له: "لقد سحقتني بعظَمتك أيّها الكاهن".
تأسيس جمعيَّة المحبّة
عاد الأب منصور إلى فرنسا وبدأ يكافح إلى جانب الفقراء كلّ تعاسة جسديَّة وروحيَّة. أسّس في السابع عشر من نيسان من العام 1625 جمعيَّة كهنة عُرفت "بجمعيَّة الرسالة" أو "جمعيَّة المحبّة". وكانت غايتها تبشير فقراء الأرياف باعتبارهم محرومين في المجالَين الدِينيّ والاجتماعيّ. وقد عُرف أبناء هذه الجمعيَّة في العالَم بالآباء "اللعازريّين" نسبة إلى دير القدَّيس لعازر الذي تأسّس في باريس.
في العام 1632 حوّله الأب منصور إلى مركز للرياضات الروحيَّة والتأمّل والصلاة ولمحاربة آفات المجتمع من البؤس والجوع. كما انطلقت من هذا الدير تحديداً رسالات الآباء اللعازريّين إلى مختلف المناطق في فرنسا أوّلاً ثمّ إلى العالَم أجمع.
رأى الأب منصور، بعد أن انتشرت جمعيَّة المحبّة، إنّه من الضروريّ إيجاد ممرّضات لخدمة المرضى، بل بالأحرى راهبات غير محصّنات. فأطلق صرخة يستنجد بها الشابّات. فتقدّمت فتاتان تتحلّيان بالاتّزان والغيرة، ممّا شجّع الأب منصور على قبولهما واعتُبرتا أوّل راهبتين من جمعيَّة المحبّة. ثمّ التحقت بهنّ شابّات أُخريات فألّفنَ جمعيَّة "راهبات المحبّة" وهذه الجمعيَّة معروفة جدّاً في عالمَنا العربيّ ولها أفضال جمّة.
كان الأب منصور سعيداً في آخِر أيّام حياته بمشاهدة مُرسَليه اللعازريّين يطوفون في كلّ أقطار العالَم حاملين نُور المسيح ومشعل المحبّة والبرّ والصلاح. وسعد أيضاً براهبات المحبّة اللواتي كالفراشات يطرنَ إلى جميع أنحاء العالَم محمّلات بعبير التضحية والعطف والحنان.
فاضت روح الأب منصور الطاهرة وانطلقت إلى جوار ربّها في 27 أيلول من العام 1660 عن عمر يناهز الثمانين.
هذا هو الأب منصور عملاق المحبّة وتلميذ المعلَّم الإلهيّ الذي قال: "روح الربّ النازل عليّ مسحني وأرسلني لأبشّر الفقراء"...
أعلن قداسة البابا كليمان الثاني عشر الأب منصور قدَّيساً في الحادي عشر من شهر حزيران من العام 1737. كما جعله قداسة البابا ليون الثالث عشر شفيعاً للأعمال الخيريَّة كافّة.
وما دام هناك متألّمون ومعذَّبون فسوف يظلّ أبناء القدَّيس منصور يعملون ويعلّمون ليقابلوا الديّان العادل يوم الدَينونة قائلاً لهم: "تعالوا يا مبارَكي أبي، ورثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالَم. لأنّي جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني ومريضاً فعدتموني، وسجيناً فجئتم إليّ" (متّى 25/34-36)