الحياة الجديدة
لا شكّ أنّ قيامة السيّد المسيح من بين الأموات تشكّل أبهى تجلٍّ لدعوة الله لنا إلى الحياة الأبديّة، وكما قام يسوع "سيقوم الأموات في المسيح" (1تسالونيكي 4: 15). فالمسيح هو، بحسب الرسول بولس، "باكورة الراقدين" (1 كورنثس 15: 20)، أيّ أوّلهم، لذلك يتابع كاتب الرسالة عينها مقارنًا بين آدم ويسوع فيؤكّد قائلاً: "كما في آدم يموت الجميع كذلك في المسيح سيُحيا الجميع" (15: 22). ويعيد الرسول بولس التأكيد ذاته في رسالته إلى أهل رومية حيث يخاطبهم قائلاً: "فالذي أقام يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم" (8: 11).
أمّا القدّيس يوحنّا الإنجيليّ فيبلّغنا بما هو أعظم من ذلك، إذ ينقل عن لسان يسوع في حين إقامته لعازر من الموت قوله: "أنا القيامة والحياة. مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا. وكلّ مَن كان حيًّا وآمن بي لن يموت إلى الأبد" (11: 25-26). فلعازر الخارج من القبر يرمز إلى المؤمنين الذين يخلّصهم صوت الربّ يسوع من براثن الموت، إذ إنّ أمر يسوع للعازر: "هلمّ خارجًا" (11: 43) إنّما هو بمثابة إعلان إلى المؤمنين بأنّ القبر ليس مقرّهم الدائم، بل الحياة الأبديّة. وفي الواقع، يرى الرسول يوحنّا خلال عرضه للقيامة الأخيرة أنّها قد تحقّقت مسبّقًا منذ الزمن الحاضر، فالربّ يقول: "الحقّ الحقّ أقول لكم إنّها تأتي ساعة وهي الآن حاضرة يسمع فيها الأموات صوت ابن الله والذين يسمعون يحيون" (5: 25).
هـذا الإعـلان الـصريح عـن التـذوّق السـابـق للقيامة الأخيرة لا يلغي بأيّ شكل من الأشكال انتظار اليوم الأخير والقيامة العامّة. إلاّ أنّ المسيحيّ مدعوّ إلى العيش منذ يومه الحاضر في هذه الحياة الأبديّة المزمع أن يفرح بها حين تمامها. هذه هي الحياة الجديدة المدعوون إليها تلك الحياة الموسومة بالطابع الفصحيّ، والتي تتيح لنا الكنيسة الاشتراك فيها عبر الأسرار المقدّسة، وبخاصّة القدّاس الإلهيّ. فالمسيح في خطابه عن "خبز الحياة" يؤكّد أنّه هو الخبز النازل من السماء "لكي لا يموت كلّ مَن يأكل منه" (يوحنّا 6: 50). ويضيف أنّ مَن يأكل من هذا الخبز "يحيا إلى الأبد، والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي لحياة العالم" (6: 52). الحياة الجديدة، إذًا، هي تلك التي دخلناها في اتّحاد مع المسيح الغالب الموت.
وهذا ما يؤكّده الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية حين يحدّثهم عن المعموديّة قائلاً إنّها مشاركة في موت المسيح وقيامته. حياة المسيحيّ تبدأ من لحظة المعموديّة "إذ نعلم أنّ إنساننا العتيق قد صُلب مع المسيح لكي يُتلف جسد الخطيئة حتّى لا نعود نُستعبد للخطيئة" (رومية 6: 6). وهكذا، في المعمودية يُدفن الإنسان العتيق ليقوم إنسانًا جديدًا ويسلك مع المسيح "في جدّة الحياة". ويتابع الرسول نفسه التعليم عن المعمودية من حيث هي خَلْقٌ جديد فيدعو المعمّدين إلى اعتبار أنفسهم "أمواتًا للخطيئة، أحياءً لله بربّنا يسوع المسيح" (رومية 6: 11). من هنا، ينبغي للإنسان الجديد أن يقبل بسيادة التعاليم والمناقب المسيحيّة على حياته: "إنْ كنتم قد قمتم مع المسيح فابتغوا ما هو فوق (...) فإنّكم قد مُتّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولسّي 3: 1-3).
الحياة الجديدة تتطلّب من المسيحيّين أن يميتوا شهواتهم وأعضاءهم التي على الأرض "الزنى والنجاسة والفجور، والشهوة الرديئة، والبخل الذي هو عبادة وثن، والغضب والسخط، والخبث والتجديف، والكلام القبيح والكذب" (كولسي 3: 8-9). الحياة الجديدة، على حدّ قول الرسالة ذاتها، هي في تنفيذنا الأمر الإلهيّ الصريح "اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله، والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه" (3: 9-10). ثمّ يضيف بولس الرسول معدّدًا بعض مهامّ الإنسان الجـديـد التي عليه الالتـزام بها "الرحـمـة واللطـف والتواضع والوداعة والأناة"، وعلى رأسها "المحبّة التي هي رباط الكمال" (3: 14). حينها فقط تتحقّق الآية القائلة: "ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم تظهرون حينئذ معه في المجد" (كولسي 3: 4).