"فصلّوا أنتم هذه الصلاة"
لفظ يسوع هذه العبارة ("فصلّوا أنتم هذه الصلاة")، ودوّنها متّى في إنجيله قبل الصلاة الربّيّة مباشرة وبعد مقطع قصير موضوعه الصلاة. ماذا قال يسوع في الصلاة، وماذا أراد من قوله؟ هذا ما سنورده كاملاً في ما يلي، ونحاول أن نبيّن معانيه.
قال الربّ: "وإذا صلّيتم، فلا تكونوا كالمرائين، فإنّهم يحبّون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس. الحقّ أقول لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنت، فإذا صلّيت فادخل حجرتك وأغلق عليك بابها وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك. وإذا صلّيتم فلا تكرّروا الكلام عبثًا مثل الوثنيّين، فهم يظنّون أنّهم إذا أكثروا الكلام يستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم، لأنّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. فصلّوا أنتم هذه الصلاة: أبانا الذي في السموات..." (متّى 6: 5-9).
يساعدنا هذا الكلام على أداء الصلاة الربّيّة وكلّ صلاة نرفعها باستقامة إلى الله الحيّ الذي يسمعنا ويفرح بنا. فالربّ الـذي ينتقد، في مطلع هذه الآيات، المرائين، ومنهم الفرّيسيّون والكتبة على زمنه، وهم الـذين همّهم، إذا صلّوا أو مارسوا أيًّا من أعمال البرّ، أن يلفتوا أنظار الناس إليهم، إنّما يريدنا أن نهتمّ بعينيه اللتين تنظران قلـوبنا وتفحصان كلّ شيء، وأن نبتعد عن كلّ مراءاة لعينة. فالمراءاة هي أوّل خطر، ولعلّها أعظم خطر يواجه الذين تسكرهم نظرات الناس إليهم. وهذا الخطر لا يهاجم الإنسان الذي يصلّي "في حجرته" فحسب، ولكن أيضًا إذا ما شارك في صلاة الجماعة. والذين يهتمّون بعيـون الناس مرضى في الكنيسة. وهـم، في واقع الحال، مشركون، ولـو لم يعترفوا بذلك أو لم يفهموا خطأهم. ولذلك يضيف الربّ: "إنّهم أخذوا أجرهم"، ويعني هذا أنّهم لن يأخذوا مجازاة الآب، ولكن عقابه. هم سيعاقَبون لأنّهم يكذبون في داخلهم، أو لأنّهم لا يؤمنون بأنّ الله قادر على رؤية الأعماق وسبر أغوارها. يتصرّفون خارجيًّا، يمثّلون، يلفّقون، وهذه هي مهزلة التقوى المزيّفة.
ثمّ يضيف الربّ: "أمّا أنت، فإذا صلّيت فادخل حجرتك وأغلق عليك بابها وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفية". يظنّ بعض الناس أنّ الربّ هنا يتكلّم على مكان الصلاة ليؤكّدوا انفصالهم عن صلوات الجماعة. وهذا تشويه لمعنى هذه الآية. وذلك بأنّ الربّ الذي يخاطب هنا المؤمنَ شخصيًّا والمؤمنين جميعًا، لم يتكلّم على مكان الصلاة، ولكن على العمق الذي يجب أن تؤدّى فيه (وهذا ينسحب على كلامه في الصوم والصدقـة اللذيـن هما مع الصلاة أسس البرّ في موعظة الجبل). وكلامه يتعلّـق بكلّ صلاة، أينما مُورِسَت هـذه الصلاة، وهو، تاليًا، لا ينفي الصلاة الجماعيّة. ولذلك لا قيـمة أبـدًا لهـذا القـول المغلـوط الـذي يراد به إهمال اجتماعات الكنيسة وصلواتها. فهذا خطأ وبّخ عليه كثيرًا منـذ ما يزيد على الألف والستّ مئة سنة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ في مواعظه على إنجيل متّى معلّقًا على هذا المقطع عينـه، بقولـه: "قد يقال: ماذا إذًا، ألا يجـب أنّ نصلّي في الكنيسـة؟ حقًّا يجب ذلك وبكـلّ الطرائـق، إنّما بروح مثل هـذه الـروح لأنّ الله يطلـب في كلّ مكان نيّة ما نفعـل. لأنّـه حتّى إن دخلت حجرتـك وأغلـقت بابك، وقمت بالصلاة للتباهي، فلن تفيدك الأبواب". وما يبقى أن نعرفه هنا هو أنّ لفظة "حجرتك" تعني، في عمقها ومداها، قلبك. وذلك لأنّ القلب هو "مكان" اللقاء بين الله والإنسان. فالربّ يقول للمؤمن: إذا وقفت للصلاة، أبعد عنك كلّ ما يعيق اتّحادك بي، كلّ فكر غريب أو خاطرة سيّئة تجعلك لا تنتبه إلى إلهك الحاضر أمامك الآن في قلبك يسمعك ويفرح بك.