القدّيس أفرام السريانيّ
أفرام السريانيّ، أو أفرام النصيبينيّ، أو أفرام الرهـاويّ، والملقَّب بـ"قيثـارة الروح القدس"، هـو أبرز آباء الكنيسـة الأرثوذكسيّة الناطقين بالسريـانيّة وأعظـم شاعر كنسيّ في الأدب السريـانيّ. وُلد في مدينـة نصيبين نحو السنة 603، وتتلمـذ ليعقـوب أسقـف مدينته، فنهل من علمه وصحبته. رسمه يعقوب شمّاسًا إنجيليًّا، فأقام على شمـوسيّته حياتـه كلّها يعـظ ويعلّـم ويرنّـم أروع الأنـاشيد وأطيب الشعـر الدينـيّ. ثمّ انتقل إلى الرّها (أوديسّا باليونانيّة أو أورفه) التي كانت مركزًا مسيحيًّا وثقافيًّا هامًّا، إذ اجتمعـت فيها الثقافتان اليونـانيّـة والسريانيّـة. وفي الرّها خدم الكنيسة شمّاسًا وخطيبًـا يفسّـر الكتاب المقدّس، ولاهوتيًّا يحارب أصحـاب البـدع، وشاعرًا ينظم الأناشيد الروحيّة، وناسكًا متـوحّدًا حين تسنـح لـه الفـرصة. تـوفّي أفرام في السنة 373 بعد أن أصيب بالوبـاء الذي فتك بأبناء منطقة الرّها. تحتفل الكنيسة بتذكاره في الثامن والعشرين من كانون الثاني.
لم يصل إلينا من أعمال القدّيس أفرام التفسيريّة إلاّ تفسير لكتـاب التكـوين وجـزء من كتاب الخـروج وكتـاب الدياطسرون (وهو كتـاب جمـع فيه مؤلّفـه تطيانُـس سيـرة السيّد المسيـح وتعـاليمـه والأحداث الخـلاصيّة)، وبعض الشذرات المتفرّقة. ولأفرام رسائل عديدة وصلنا منها رسالة وجّهها إلى الرهبان المتنسّكين في جبال الرّها، وخطبة عنوانها "عن سيّدنا" تكلّم فيها على ألوهة السيّد المسيح وافتدائه البشر، وخطب ألقاها في الاحتفالات والصلوات العامّة مواضيعها تدور حول الحثّ على التوبة ومخافة الله والنسك والزهد في الدنيا.
أهمّ مؤلّفاته، من دون شكّ، هي الأناشيد والترانيم الروحيّة الكثيرة التي وضعها. وتصعب، في هذا المجال، الإحاطة بجميع آثار أفرام وتمييز الصحيح من المنسوب إليه. والجدير بالذكر أنّ في السريانيّة نوعين من الشعر رئيسيَّين: الميمر والمدراش. أمّا الميمر فهو منظومة تُقرأ ولا تُنشد، وتأتي أبياته على نمط واحد من التقاطيع، وقد تصل أبيات الميمر إلى ألوف الأبيات، لذلك يمكن الميمر أن يحمل مادّة تعليميّة متنوّعة. وأمّا المدراش فهو منظومة تُنشد إنشادًا وأبياته معدودة. وقد برع أفرام في النمطين معًا فكان، في ميامره ومداريشه، لسان العقيدة الأرثوذكسيّة.
ما ثبت لأفرام من القصائد والأناشيد نذكر: 65 مدراشًا "ضدّ الهرطقات" هاجم فيها المؤلّف أضاليل المنجّمين (ما زال أهل القرن الحادي والعشرين يتابعون تفليكاتهم) وبعض الهراطقة؛ 78 نشيدًا "في الإيمان" هاجم فيها الآريوسيّين الذين أنكروا ألوهة السيّد المسيح، ومنها 51 نشيدًا في الفردوس يتغنّى فيها ببهاء السماء؛ 12 نشيدًا "في الفطير" يحتفل فيها بآلام المسيح وقيامته؛ 25 نشيدًا "في الكنيسة" و15 نشيدًا "في البتوليّة"، وغيرها في الصلب والصوم ونزول المسيح إلى الجحيم.
يمكن إيجاز فكر القدّيس أفرام المنثور في أناشيده بأنّ الله خلق الخليقة كلّها من أجل الإنسان، وأنّ الكون لولا بركة الله المسبقة لعاد، بعد الخطيئة، إلى العدم. وخلق الله الزوجين البشريّين، آدم وحواء، وما كلامه على نموّهما وتكاثرهما إلاّ لسابق علمه بخطيئتهما وطردهما من الجنّة. أمّا مشابهة الإنسان لله، بالنسبة لأفرام، فلا تقوم على النطق (أو المنطق) والعقل فقط، بل تقوم أيضًا وبوجه خاصّ على الإرادة الحرّة: "بالإرادة تولد الخطيئة، وبالإرادة تتقلّص الأعمال الأثيمة". ويرى أفرام في قدّيسي الجنّة انتصار تلك الحرّيّة البشريّة التي غرسها الله في الإنسان، والتي من دونها يبطل أن يكون الإنسان إنسانًا.
يعتقد أفرام أنّ الإنسان، من دون الاعتماد على الله، عاجز عن معرفة وجود الله. الإيمان وحده يقيم الصلة بين المخلوق والخالق، والإرادة هي التي تثبّت هذا الإيمان في وجه كلّ اعتراض وكلّ شكّ. ويشدّد قدّيسنا، في هذا السياق، على الجمع بين الإيمان والأعمال: كما أنّ الجسد الذي يحيا بالنفس، يحتاج أيضًا إلى الخبز، كذلك تحتاج حياتنا، فضلاً عن الإيمان، إلى سلوك يتّسق وهذا الإيمان. ولا يكتمل الإيمان من دون محبّة، وهما كالجناحين اللذين لا ينفصلان، فيقول: "لا يستطيع الإيمان أن يطير بدون المحبّة، ولا المحبّة أن تطير بدون الإيمان". هكذا، تأتي الصلاة امتدادًا للمحبّة، والصلاة كالإيمان والمحبّة اتّصال مباشر بالله لا يقبل التنظير. أمّا الصوم، عنده، فعن ثلاثة أمور: المأكل والمشرب والخطيئة.
اشتُهر القدّيس أفرام بصفته كاتب صلاة التوبة التي ترافقنا في كلّ صلوات الصوم الكبير، ولأهمّيّتها نوردها كاملة: "أيّها الربّ وسيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول، وحبّ الرئاسة والكلام البطّال، وأنعم عليّ أنا عبدك الخاطئ، بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة. نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي، وألاّ أدين إخوتي فإنّك مبارك إلى الأبد، آمين". وهذه الصلاة، بعد صلاة "أبانا"، هي صلاة نموذجيّة، إذ تجمل كلّ ما يمكن المؤمن أن يصلّي ويطلب إلى الله. وقد طلب القدّيس أفرام في وصيّته: "ثلاثين يومًا بعد وفاتي تقدّمون الذبيحة المقدّسة من أجلي، لأنّ الأموات تفيدهم الذبائح التي يقدّمها الأحياء". القدّاس يجمع الأموات والأحياء، إذ لا أموات في المسيح. فبشفاعات القدّيس أفرام، الحيّ عندك، أيّها الربّ يسوع ارحمنا وخلصنا.