فرصة استثنائية للمساواة؟
الإثنين, 21 نوفمبر 2011
فاديا فهد *
بموت «عميد الحكّام العرب»، «ملك ملوك أفريقيا» معمّر القذافي، طُويت صفحة أخرى من تاريخنا العربي، تاركة في الذهن صورة مصدعة حدّ الخوف للزعيم الذي لا يقهر، ومعيدة الى الذاكرة مشاهد الرئيس صدام حسين يوم وُجِد في جُحره عجوزاً ذليلاً خائفاً لا حول له ولا قوّة، ويوم التفّ حول عنقه حبل المشنقة صبيحة عيد الأضحى المبارك.
مخيفٌ هذا السقوط، مرعب في فراغه، خصوصاً انه ينزع كلّ هالة أحيطت بذاك الزعيم الذي كان لزمن طويل كلّ شيء. لا تزال صورة الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلف القضبان وهو ينظر في الفراغ وإصبع يده في أنفه، قبالة عيوننا التي تسمّرت الى الشاشة الصغيرة لتلقُّفِ الإطلالة الأولى للرئيس «الفرعوني» بعد تنحّيه. والسؤال هو كيف يستمرّ التاريخ العربي من دون «فراعنته» والأيقونات التي ألهمته لعقود طويلة ورُفعت شخصياتها الى مصاف الرموز، ونُسب إليها كلّ انتصارات العرب وإخفاقاتهم، لترتبط كلّ نكسة بزعيم، كذلك كلّ نصر موهوم.
الزعيم كان حتى الأمس، كالقدَر، تستسلم له الشعوب بطيبة خاطر ورضا وتلقي على عاتقه كلَّ مسؤولية، مكتفيةً بدور سلبي، ومتنصلة من واجباتها الوطنية، كأن لا وجود لها إلا من خلاله. ونُقِل عن المنتصر بالله، نجل القـذافي، قولـه لأهـالي بـنـغازي قبـيـل المـعـركة الأخـيـرة، أن والـده مـنـحـه الـمـدينـة وأهـلـها للـذود عـنهـا، مـؤكداً لهم انه سـيـدافع عـن «مُلكِه» هذا حتـى الرمق الأخير. وهكذا، فإن مفهوم الوطن ملـتبس، فالأرض ومَنْ عليها مِلْكُ الزعيم حتى يقرّر منحها أو توزيعها. من هنا شعور بعض العرب بالضياع المتعاظم إثر انهيار الأنظمة، واحداً تلو الآخر، ضياع يشبه فقدان الوالد، أيّاً تكن صفاته، متسلّط، قاهر، جبّار، مستبدّ، عنيف، مستغِلّ، قامع... الخ.
جاءت الثورات العـربـية كي تكـسر أيقـونـة الزعيم القَـدري، ومـعها السـلطة الأبـوية المـمـتـزجة بملامح «سـي السـيّد» وما يمثـّـله من سلـطة مـطلـقة على الــزوجـة والأولاد. جـاءت لـتقول بـلـسان جـيل من الشــبان والشابات المتمردين: لن نقبل بعد اليوم بأن يُملى علينا المستقبل، ولن نعيش في جلباب تجارب الأجيال السابقة. لن نقبل بأن ترسم حدود لأحلامنا وطموحاتنا. نريد وطناً نتنفّس فيه الحرية، مساحة لعيش تجارب ديموقراطية متعدّدة، تكون لنا فيها مشاركة مواطنية فاعلة ويكون صوتنا مسموعاً، ولا بأس إن أخطأنا، فنحن مـسـتعدون لتصحيح الخطأ حتى تحقيق التجربة الناجحة التي نحلم بها!
يؤخذ على الثوار والثائرات من الشباب العرب أنهم أفراد ومجموعات صغيرة غير منظّمة وغير منضبطة في كوادر. شخصيات «تويترية» و «فايسبوكية» لا تجيد الديبلوماسية ولا تعترف باللعبة السياسية، والأهمّ انها لا تتمتّع بصفات القائد الذي يخطّط ويتحالف ويساوم ويفاوض. شخصيات عنيدة لا تفهم اللفّ والدوران وتتمسّك بمثالياتها، بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية الواقعية. وغالبية هذه الشخصيات لا تسعى الى مجد ذاتي ولا الى مكاسب شخصية، فالمعارِضة المصرية نوّارة نجم تؤكد انها «من الناس ولهم»، ولا علاقة لها بالسياسة والمناصب، ولا تنوي الترشح الى الانتخابات النيابية، كذلك يبدي بطل الثورة المصرية وائل غنيم زهده بأيّ منصب سياسي، كما أن المعارِضة اليمنية توكّل كرمان لم تضع فلوس جائزة نوبل في جيبها وتكتفِ، بل أكدت انها ستتبرع بالمبلغ للحكومة الجديدة التي ستؤلَّف بعد سقوط الرئيس علي عبدالله صالح. وراحت تسخّر حفلات تكريمها في الأمم المتحدة والجامعة العربية والدول الغربية للضغط في اتجاه تنحّي الرئيس اليمني.
هذا الواقع يعكّر العملية الانتقالية ويربكها، خصوصاً انه لا يخلق صورة زعيم بطل بديل، بل يترك الساحة مفتوحة لمشاركة ديموقراطية متعددة الوجوه والاتجاهات والأهواء، منظومة اجتماعية قائمة على السلطة الأبوية، سقطت، وسقطت معها تلك التبعية العمياء الى الطائفة والقبيلة والعائلة. كلّ فرد من أفراد العائلة الصغيرة والكبيرة في مجتمعاتنا العربية بات له اليوم صوته ورأيه الخاص وقراره ومسؤولياته، يُسائل ويحاسِب ويطالب بالمزيد من الشفافية. وفي ذلك فرصة استثنائية للمساواة بين رجل وامرأة، بين غنيّ وفقير، بين صاحب نفوذ ومواطن مهمّش، بين قيادي وعامل عادي... فرصة صنعتها الثورات ولم يعد مقبولاً التراجع عنها والعودة الى وراء.
بالأمس القريب، كان السؤال الذي يوجَّه الى مرشح للقيادة لتحديد مؤهلاته القتالية والقيادية وقدرته على تحمّل الصعاب وإدارتها: هل أدّيت الخدمة العسكرية؟ والأجدر أن يكون السؤال اليوم: هل تجيد استخدام الإنترنت؟ وهل أنت ناشط على المواقع الاجتماعية؟
* نائبة رئيس تحرير مجلّة «لها».
الحياة