البار صادق روفائيل
نشأته:
وُلد من أبوين مسيحيين بارين، وكان له أحد عشر أخًا ماتوا جميعًا في سنٍ مبكرة ولم يبق إلا هو، وربياه تربية مسيحية تقوية.
من أبرز ما ورث عن والديه روح الصلاة والتأمل في الكتاب المقدس، فكان يقرأ قليلاً ويتأمل كثيرًا ويحيا عمليًا في آياته.
غمس قطعة لحم بالخمر:
للكلب حدث وعمره أربع سنوات وفي ليلة أحد الأعياد أن جاءهم بعض الأقارب ومعهم خمر وقدموا لأبيه ليشرب منها، فما كان من الطفل صادق إلا أن غمس قطعة لحم بقليل من الخمر وقدمها للكلب الذي في منزلهم فرفضها الكلب بعد أن اشتمَّ رائحتها. فصرخ الطفل صادق وطلب من أبيه ألا يشرب ما رفضه الكلب.
انتقال والده:
انتقل والده بعد مرض طويل أقعده في الفراش، وكان صادق يصلي لأجل شفائه، لكن الله سمح بانتقاله، فبكى الشاب لأجله بألم وحزن شديدين، فسمع صوتًا واضحًا جدًا من السماء يقول له: "صادق! صادق!... أتحب أباك أكثر مني؟" وتكرر هذا الصوت مرتين، وفي الحال شعر بسلام عميق، فكان بعدها يشكر الله على انتقال والده.
بتوليته:
ما لبثت والدته أن انتقلت من العالم. وكانت آخر وصية له أن يعتني بزوجة أخيه المتوفى وألا يتركها، حيث كانت والدته تعلم برغبته في الذهاب إلى الدير للرهبنة.
أطاع وصية أمه وعاش في العالم يعتني بزوجة أخيه المتوفي ومعها ابنتها وابنها. عاش كراهبٍ زاهدٍ في العالم، في بتولية الفكر والقلب والجسد. حاولت عائلته تزويجه بطرق عديدة، أما هو فكان واثقًا أن الله الذي يعرف اشتياقات قلبه لابد وأن يظهر إرادته بوضوح. توجّه أحد أقاربه إلى إحدى العائلات الطيبة ليخطب ابنتهم لصادق، وفي نفس الليلة ظهرت رؤيا للفتاة. رأت السيد المسيح له المجد بملابس بيضاء وفي يده ورقة مكتوب عليها بالذهب: "صادق روفائيل". ولما همّت الفتاة أن تأخذ هذه الورقة من يد المسيح وجدته يبعد الورقة عن يدها ويقول لها: "لا... صادق هذا إناء مختار لي".. وعلم الجميع بهذه الرؤيا وخضع الجميع لإرادة الله ولم يعد أحد يفاتحه بعدها في أمر الزواج.
تكريمه للقديسة مريم:
كل من التصق به يدرك مدى تكريمه للقديسة مريم، وقد شعر أحد زملائه في العمل بهذا، فصار يسخر به قائلاً: "كيف تكرم مريم وهي كقشرة البيضة، متى أخذنا ما بداخلها، أي السيد المسيح، تصير كلا شيء؟"
في أحد الأيام اتصل الشاب صادق بمنزل صديقه وكان على علاقة طيبة بهذا الزميل وأسرته، وإذ تكلمت معه الأم تكلم معها الأخ صادق بجفافٍ شديدٍ على غير عادته. دُهشت الأم التي كانت تعتبره ابنًا لها، واشتكت لابنها.
في اليوم التالي جاء الزميل وكان في ثورة عارمة، وقال له: "هل اتصلت بالأمس بوالدتي؟" في هدوء قال له: "لماذا تسأل؟"
أجابه: "لقد أخبرتني والدتي أنك كنت جافًا للغاية معها".
قال الشاب صادق: "ولماذا أنت ثائر، أنا لطيف للغاية معك!"
علّق الشاب: "لكن من يهين أمي يهينني!"
عندئذ قال له: "أتدافع عن أمك ولا يدافع السيد المسيح عن أمه الذي تجسد منها بالروح القدس؟"
أدرك الشاب خطأه، وأخبر والدته بقصد زميله، أنه أعطاه درسًا عمليًا في تكريم القديسة مريم والدة الإله.
حياته العملية:
في الوظيفة عاش مثالاً للموظف المسيحي الحقيقي الذي يحيا كنور للعالم وملح للأرض. عُرفت عنه الأمانة الكاملة والصدق في القول والتمسك بالحق. كان يؤمن بعمل الروح القدس فيه وأنه يُعلمه كل شيء حسب كلام المسيح، ولذا كان بنعمة الله يُدرك الكثير من المعارف والعلوم. وإن كان قد حصل على ليسانس الحقوق باللغة الفرنسية أثناء وظيفته وأتقن أربع لغات كان يتكلم بها بطلاقة. وعاون في أحيان كثيرة في إعداد رسائل ماجستير ودكتوراه في علوم مختلفة لبعض أولاده في الرب، لكنه كان يعتبر كل ذلك نفاية. وكانت الشهادة الكبرى هي امتلائه من الروح القدس، وكانت آخر وظيفة شغلها "مدير مكتب مدير عام مصلحة المساحة". (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ).
حكى عنه أنه ذات يوم حضر إليه شقيق وكيل وزارة الأشغال وكان مديره السابق، وقال له: "إن شقيقي يشكر فيك ويمتدح أمانتك له". فأجابه قائلاً إن أمانته ليست لشقيقه إنما هي لله الذي يعبده، ومنها إلى شقيقه بطريق غير مباشر، فتعجّب السامع جدًا ومجّد الله. وبعد إحالته للمعاش انتقل إلى الإسكندرية ليقيم فيها، وكان ذلك في منتصف سنة 1960. وكان بركة لكثيرين بهذه المدينة وكانوا يدعونه "بابا صادق".
حياته الروحية:
حباه الله بمواهب متعددة، فكان يرى ملاكه الحارس كنور شديد ملاصق له في بعض الأحيان. كما شاهد العذراء عدة مرات وكذا كثيرًا من القديسين. وكلام الإيمان والحكمة الذي يتكلم به بإرشاد الروح القدس بقوة وإفراز. وكان من يستمع إليه يشعر بمتعة خاصة.
كان تمتعه بصلاة القداس الإلهي عجيبًا. وكان يعلم أنها دُعامة حياة المسيحي الروحية، وكان يقول أن سبب تعزيته في شركة القداس لا تكمن في سماعه بالأذن بل حياته بالمسيح فيه في كل دقائقه. ففي القداس كان يفيض بحرارة الروح القدس الملتهبة بنظره المُحدق دائمًا في الذبيحة الإلهية، وكان حينما يتناول كان وجهه يُشرق ويطفق فرحًا.
ويقول القمص تادرس يعقوب ملطي: أذكر في أول قداس صلّيته في كنيسة الشهيد مار جرجس بإسبورتنج بعد سيامتي عام 1962 م، كان بطيئًا جدًا. وإذ قمت بزيارته في وسط الأسبوع وكنا نتحدث معًا أشرت إليه أن القداس كان طويلاً، وإذا بالدموع تتسلل من عينيه وهو يقول: "لا تقل هذا فإني أتمنى لو كان عمري كله قداس لا ينتهي!"
كان من عادته أن يقف عند الباب الخارجي للكنيسة أثناء ختام القداس حتى متى انتهى القداس الإلهي يسرع إلى بيته، ويدخل حجرته، ولا يلتقي بأحدٍ لمدة ساعة. وكان يقول كيف أتحدث مع الناس بعد القداس الإلهي مباشرة؟
غزارة دموعه:
حينما يتحدث عن حب الله الفائق كانت دموعه تتسلل فيتحدث مع الحاضرين بدموعه أكثر من كلماته.
ويكمل القمص تادرس ملطي: أذكر أنه في إحدى زياراتي له وجدته يبكي فسألته عن سبب بكائه؟ فقال لي:
"أختي (زوجة أخيه) تبكي من أجل خمسة جنيهات يبدو أنها طارت مع الهواء وألقيت في وسط القمامة. قلت لها هل تبكين من أجل الخمسة جنيهات ولا تبكين على النفوس التي تهلك كل يوم؟!"
هكذا كانت دموع تتسلل بغزارة من أجل خلاص الآخرين.
نياحته:
كان يعاني من مرض متعب ولكنه كان لا يشكو، بل كان يشكر الله الذي أعطاه مرض الجسد لعلاج الروح، إذ يهتم بالباقي دون الفاني، والروح دون الجسد. أخيرًا تنيح بسلام في يوم الخميس 6 نوفمبر سنة 1969 عن 69 عامًا، وكان طوال الأسبوع الأخير من حياته على الأرض يعبّر لمن حوله أنه سينطلق من العالم. وظهر أثناء تشييع جنازته رائحة بخور قوية تتصاعد من جسده اشتمها الجميع.
حكى أحد أقاربه بالجسد عن نفسه أنه كان يحيا مستهترًا جدًا كشاب، وكانت أمه كثيرًا ما تنصحه أن يذهب ليجلس مع الأخ صادق ولكنه لم يفعل. وحضر جنازته ووقف أمام جسده وقال في نفسه: "يا رب كل الناس يقولون عن هذا الرجل أنه قديس. فإن كان كذلك بالحقيقة أعطني أن أتوب عن كل خطية وكل شر". وخرج من الجنازة باعترافه إنسانًا جديدًا، حتى التدخين الذي كان مستعبَدًا له أقلع عنه.
أخيرًا أود أسجل بكل شكر له، فقد اشترك في مراجعة جزء من كتاب "الحب الأخوي" أثناء وضع الخطوط العريضة له، وكان لتعليقاته أثرها في توجيه الكتاب ببُعد روحي عميق.