العنف في العهد القديم
يتألّف الكتاب المقدّس من جزءين هما العهد القديم والعهد الجديد، وفي كلاهما كان الله هو المُتكلّم. وبما أنَّ الناس هم دائمًا في أشدّ الحاجة إلى خبز الحياة الكامل، إلى كلمة الله غير النّاقصة، يعمل إبليس بجَهد للتّشكيك في مصداقيّة بعض ما ورد في الكتاب المقدّس لإبعادهم عنه. ومن المقاطع الّتي يتناولها التّشكيك تلك الّتي يظهر فيها الله للإنسان وكأنّه يُمارس قسوة لا مبرِّر لها: "وأمّا مُدُنُ هؤلاء الشُّعوب التّي يُعْطيكَ الرّبُّ إلهكَ نَصيبًا فلا تَسْتَبْقِ مِنْها نَسَمَةً ما" (تثنية 20: 16)، أو "وحَرَّموا كُلَّ ما في الْمَدينَة مِنْ رَجُلٍ وامْرأةٍ، مِنْ طِفْلٍ وَشَيْخٍ، حَتّى الْبقَرَ والْغَنَمَ والْحَمير بِحَدِّ السَّيْف" (يشوع 6: 21).
ويسأل القارئ: هل كانت القسوة سِمة العهد القديم؟ هل هناك مُبرِّر لهذه القسوة الظّاهرة في معاملات الله مع الشّعوب في العهد القديم؟ هل اختلف الله أو تغيّر في العهد الجديد؟ مَن يدرس موضوع العنف في العهد القديم يخلص إلى التّالي:
أوّلاً: لقد كان النّاموس (القانون)، لا العُنف، هو سِمة العهد القديم. فالناموس كشف الخطيّة وبشاعتها ونتائجها، وأظهَر حاجة النّاس إلى مُخلِّصٍ منها. أمّا الله في العهد القديم، فكان كما الله في العهد الجديد، إلهًا يُسَرّ بالتّوبة لا بالقصاص: "هَل مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشّرّيرِ يَقولُ السّيِّدُ الرَّبُّ؟ ألا بِرُجوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيا؟" (حزقيال 18: 23). نرى الله في العهد القديم إلهًا يدعو إلى المحبّة "لا تَنْتَقِمْ ولا تَحْقِدْ عَلى أبْناء شَعْبِكَ بَلْ تُحِبُّ قَريبَكَ كَنَفْسِكَ. أنا الرَّبّ" (لاويّين 18: 19). ونراه، أيضًا، كثير الرّحمة والغفران "الرَّبُّ رَحيمٌ ورَؤوفٌ، طَويلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. لا يُحاكِمُ إلى الأبَدِ، ولا يَحْقِدُ إلى الدَّهْرِ. لَمْ يَصْنَعْ مَعَنا حَسَبَ خَطايانا، ولَمْ يُجازِنا حَسَب آثامِنا" (مزمور 103: 8-10).
ثانيًا: إنَّ شدّة الشّرّ الّذي كشفه النّاموس وطبيعة الإنسان السّاقطة بسبب الخطيّة، هما سبب شدّة الدّينونة في العهد القديم، وهذا لم يتغيّر في العهد الجديد. إنّ يسوع المسيح نفسه تكلّم على النّار الأبديّة أكثر ممّا تكلّم على السّماء. حتّى أنّ أشدّ مشهد عقاب قام به الرّبّ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في العهد القديم، هو بالتّأكيد أقلّ شدّة من مشهد العذاب الأبديّ في جهنّم كما وصفه يسوع. لكنّ الله يُعطي النّاس، أفرادًا أو مجموعات، فرصًا للتّوبة، فإن تهاونوا ولم يستفيدوا منها نزلت بهم الدّينونة لا محالة. والدّينونة في سفر الرّؤيا خير شاهد على استمرار حتميّة إدانة الله للشّرّ. ألم يكن الصّليب مشهدًا مخيفًا يُظهر غضب الله القدّوس ولزوم الكفارّة الّتي سبّبت أشدّ العذاب والألم لربّ المجد؟!
ثالثًا: إنَّ ما سبق يقودنا إلى أن نعترف بأنَّ الله لا يتغيّر أبدًا، لا في طبيعته وصفاته ولا في طبيعة أعماله الصّالحة ولا في مطالبه المُحِقّة في أيّ زمان ومكان. فسيف السُّلُطات الشّرعيّة الحاكمة الّتي تعاقب النّاس وتحفظ القانون في أيّ بلد الآن، هو السّيف نفسه الّذي كان في يد الملوك والأنبياء في العهد القديم. نرى إذًا، أنّ الله قد يستخدم شعبًا ما في تنفيذ عقاب على شعب آخر، أو قد يستخدم شعبًا شرّيرًا في تأديب شعبه، أو قد يستخدم الطّبيعة كما نعاين أحيانًا كثيرة. لكنّ رحمته لا تتغيّر، وهي تبقى مع التّبرير بالإيمان بالمسيح المخلّص سِمتي العهدين القديم والجديد، وسمة إلههما يسوع المسيح الّذي هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد.