وعلى الارض السلام
منذ ما يزيد على الالفي عام أطل الله على الدنيا في شخص عمانوئيل ، فكانت اطلالته أعظم هدية للأرض . ولعل أجمل ما في الهدية أن السماء فاجأت الأرض بها ، فكانت أجل تعبير عن اهتمام السماء
بالارض .
كانت الارض قد خلعت حلة النهار الموشاة بالنور وارتدت ثوب الليل المنسوج من خيوط العتمة ، وغفت في فراشها تراودها الاحلام . وما أن جنى الليل وساد السكون ، حتى اقتربت السماء من الارض
ووضعت بين يديها الطفل الالهي . وقبل أن يتبين الخيط الابيض من الاسود ، ظهر جمهور من الجند السماويين ليوقظوا قاطني الارض بعذب النسبيح ، قائلين :" المجد لله في العلي وعلى الارض السلام
للناس الذين بهم المسرة " لوقا 2: 14 .فتسمع الارض تسبيحهم ، وتصحو من رقادها لتتلقى هدية فريدة ،هدية لم و لن يأتي الزمان بمثلها.
مفاجأة فاضت لها قلوب الرعاة فرحا و سُرت بها نفوس مجوس الشرق . قال الرعاة : لنمضي الى بيت لحم وننظر هذا الامر الواقع الذي أعلمنا به الرب ، و مجوس الشرق تسألوا : أين المولود ملك اليهود
؟ فإنّا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له .
مفاجأة أبهجت قلوب الشيوخ المنتظرين ، فسبَّح الكاهن زكريا قائلا :" مبارك الرب اله اسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه " لوقا 1: 68 .
وسبَّح التقي البار سمعان قائلا:"الآن تطلق عبدك أيها الرب على حسب قولك بسلام ، فان عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلها " لوقا 2 : 29- 31 .
في البدء عصا آدم ربه و سقط في هاوية البؤس والشقاء . فتبدل بأسه يأسا ، وغدا فرحه حزنا ، وتحول تسبيحه أنينا إرتفع الى السماء . فتحنن رب السماء على الانسان، ومن حنانه وعد بمخلص يأتي من
نسل المرأة ، ليبرر الانسان ويعيد له اعتباره كمخلوق على صورة الله . ولما جاء ملء الزمان وحانت ساعة قدوم المخلص ،كانت الارض حبلى بالآثام والخطايا التي فصلت بين الله وبين الناس وحجبت
وجهه عنهم . ولم يكن في الارض سوى نفر من الأتقياء والحكماء ، يتوقعون مجيء الآتي باسم الرب. كانت هذه الجماعات تعيش فوق جبال التأمل ، فلمحت من بعيد ضياء نجم يسطع في السماء ، فتوقعت
ولادة الموعود مشتهى الامم ورجاء العالمين.
لم تخطر على بال إنسان صورة مجيء المخلص ، فقد توقع الجميع من الأتقياء والحكماء أن يأتي محاطا بالمجد والقوة . واذا به يأتي طفلا وديعا بحاجة الى الحنان والرعاية .
كانت أورشليم حينها مركز السجود الحقيقي لله ، فتوقع سكان أورشليم أن تضع السماء هديتها في حضن مدينتهم المقدسة .و روما روما التي كانت عاصمة القوة ، ظن قادتها أن السماء ستخُصهم بالهدية
العظمى . أما منارة الفكر والعلم حينها - أثينا ، فقد ظن فلاسفتها أن السماء ستكافئهم بالهدية المنتظرة .
لكن السماء تخطت أورشليم وقدسيتها ، روما وقوتها ،أثينا وفكرها وتوجهت بهديتها الى مكان قَصّي . فهناك في بيت لحم أرض يهوذا وُضعت الهدية المنتظرة ، ليس في قصر منيف بل في مغارة حقيرة تأوي
اليها المواشي وفي أحقر مهد ، في مذود .هكذا ارتسمت المسرة في عيني الرب لتوجه الانظار الى الهدية نفسها ، لا الى ما يحيط بها من جلال ومجد .
هذا هو عمانوئيل الذي أهدته السماء للأرض ، فسمعت الأرض يوم تجسده خبراً عجيباً غريباً أن أمه العذراء مريم حبلت به من الروح القدس. فتحيرت العقول بأمره ، والعقل متى تحير بحث ، ومتى بحث
تدّبر ومتى تدّبر سلَّم بأن فكر الله في التجسد فوق البشر .
والواقع أن المسيح كان عجيبا في ميلاده ، عجيبا في حياته ، عجيبا في تعليمه ومبادئه و عجيبا في أعماله . في أيام جسده كانت الامة التي ولد فيها مستعبدة للرومان ، فتوقع قادة الامة أن يُحرّض الشعب
ويُعبيء قواه لدحر الرومان . واذا به يفاجئهم بتعليم خيَّب كل توقعاتهم ، اذ قال : " لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الآخر . ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضا .
ومن سخرك ميلا فامشي معه اثنين " متى 5: 39- 41 .
وحين أراد أن يختار صحبه لم يختارهم من عَلِيّة القوم أو الأقوياء أو الفقهاء بل اختارهم من الفقراء والعامة . وبهذا انتزع القوة من الاقوياء ووضعها في الضعفاء . وانتزع الحكمة من الفقهاء ووضعها في
الاطفال .
والمسيح يسوع عجيب في سلطته على التاريخ البشري ، فهو لم يكن مجرد اسطورة بل هو حقيقة تاريخية شهدت بها كتب السماء وكتب الارض.وخير دليل على هذه الحقيقة سلطانه العجيب الذي بسطه على
التاريخ . فمع أنه حُقّر وصُلب وتركه أتباعه ، وظن أعداؤه أنه سيصبح نسيا منسيا ، فبعد القليل من الوقت تحكم في التاريخ وأمسك بعقارب الزمن وغدا يوم مولده ختما لكل وثيقة تُكتب في العالم .
بدأت حياة السيد المسيح بمعجزة هي ولادته من عذراء بحلول روح الله القدوس عليها وبلغت ذروتها بمعجزة هي قيامته من بين الاموات . والمعجزات بين هذه وتلك هي لافتات تخاطب كل عقل قائلة : قف !
انظر ! وفكر من هو هذا الانسان !!؟؟