العدالة الانتقالية في دول ما بعد الثورات الشعبية بقلم:فوزي منصور
2012-02-29
العدالة الانتقالية في دول ما بعد الثورات الشعبية
شهد عدد من الأقطار العربية العام الماضي ثورات واحتجاجات عارمة، كانت نتيجة طول معاناة الشعوب من الاستبداد والفساد وغياب الحريات، وتزايد وتيرة الانتهاكات ، وتدهور الأوضاع المعيشية بسبب غياب مخططات للتنمية وغياب العدالة الاجتماعية واستنزاف وتبديد الموارد الطبيعية والاقتصادية وعدم نزاهة واستقلال القضاء وعدم القدرة على تدبير الاختلاف المجتمعي في أبعاده العرقية والإثنية والدينية بشكل ديمقراطي..، فمازالت الدول في شمال أفريقيا التي قامت فيها ثورات شعبية للإطاحة بنظم الحكم فيها والتي تتمثل أساسا في تونس ومصر وليبيا تغيب عنها مصالحة وطنية شاملة تستمد مقوماتها من أسس العدالة الانتقالية التي تجمع كافة القوى السياسية وتؤهلها للعمل معا من أجل بناء نظام سياسي جديد ، يحل محل النظام الذي قامت الثورات للإطاحة به ، وتحقيق أهداف الثورة المعلنة في الحرية والكرامة وتحسين ظروف العيش .وضمان استقرار المجتمع بعد الثورة وضمان عودة النظام الاستبدادي المطاح به بكل ما كان يمثله من قمع للحريات وفساد في الأرض وإهدار للإمكانيات وتمزيق وحدة المجتمع باللعب على متناقضاته وانقساماته العرقية أو الدينية أو اللغوية لإحكام السيطرة عليه.
مؤتمر العدالة الانتقالية بالقاهرة
ولذا عقد في القاهرة يومي 24و25 فبراير الجاري مؤتمرا عن العدالة الانتقالية ينظمه المعهد العربي لحقوق لإنسان، بتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان والمركز الدولي للعدالة الانتقالية ودعم من البرنامج الإقليمي لحقوق الإنسان وبناء السلام الذي تدعمه الوكالة الكندية للتنمية الدولية.
وقد سبق عقد مؤتمر إقليمي مماثل بالقاهرة نظمه أيضا مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية "العدالة الانتقالية في مصر والعالم العربي – التحديات والفرص" في الفترة من 30 إلي 31 أكتوبر 2011بمشاركة خبراء وحقوقيون وقضاة من دول مختلفة.لبحث إشكاليات تطبيق منهج العدالة الانتقالية في الدول التي شهدت ثورات أطاحت برؤساء الأنظمة السابقة، وذلك عن طريق تناول ودراسة تجارب دول مختلفة مرت بظروف مشابهة لما تمر به الآن تونس، مصر وليبيا وتستعد له دول عربية أخرى، وذلك للاستفادة من تلك الخبرات في مواجهة ما تشهده المنطقة العربية من تحديات في هذا الصدد.ووسبق أيضا عقد ندوة في الرباط بالمملكة المغربية يومي 23 و24 نوفمبر 2007بدعوة من مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية وبالاشتراك مع المعهد العربي لحقوق الإنسان ومنظمة "لا سلم بدون عدالة"،وبالتعاون مع مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية، وحضرتها نخبة من الحقوقيين والباحثين والخبراء العرب المتخصصين في قضايا الحل السلمي للنزاعات العنيفة والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتحولات الديمقراطية الجارية في عدد من الدول العربية وبحضور شخصيات من إيطاليا وأستراليا وسيراليون.لتوفير آليات تساهم بشكل إيجابي وبنّاء في برامج إحلال السلم ومداواة جروح الانتهاكات الماضية ومقاومة اللاعقاب والإقصاء وتحقيق العدالة بأشكالها الانتقالية والتقليدية ووضع حد للصراعات السياسية والحروب الأهلية التي كانت مازالت ننتهك قوى واقتصاديات بعض تلك الدول والتمهيد لمصالحة الوطنية وقيام المؤسسات الديمقراطية التي تحول دون تكرار تلك المآسي والانتهاكات لحقوق الإنسان.
ورغم أهمية موضوع المؤتمر والذي يعقد للمرة الثانية في مصر خلال أقل من عام ، مما يوضح شدة الحاجة اليه في مصر بعد ثورة 25 يناير فإنها لم تحظ بعد باهتمام وسائل الإعلام المصرية ، بل يمكن القول بأن سبب تعثر الثورة المصرية ومحاولة احتوائها وإفراغها من مضمونها ، ليس الدافع الى ذلك فقط محاولة المستفيدين من النظام السياسي السابق المحافظة على امتيازاتهم ومكاسبهم منه بالإبقاء عليه والاستماتة في الدفاع عنه ، بقدر ما يعود ذلك إلى غياب مفهوم العدالة الانتقالية والسعي نحو تحقيقها في الحياة السياسية المصرية بعد الثورة.والثورتان في ليبيا وتونس تحتاجان بدورهما لتحقيق العدالة الانتقالية حاجة مصر اليها.
وفي المؤتمر الحالي سينكب المشاركون، الذين ينتمون إلى المغرب، الجزائر، العراق، تونس، مصر، ليبيا، البحرين، اليمن وسوريا، في إطار أربع مجموعات عمل، على صياغة مشاريع قانونية وهيكلية لمنظومة العدالة الانتقالية فيما يتعلق:
(1) بالمساءلة والمحاسبة لمنتهكي حقوق الإنسان.
(2) التعويضات وجبر الأضرار
(3) المصالحة والإصلاحات لضمان القطيعة مع الماضي.
(4) إعداد تصور لإرساء مجموعات الإنصات وجلساتها وتوثيق الشهادات، وذلك بهدف الخروج بوثيقة توجيهية لإقامة العدالة الانتقالية في البلدان العربية.
ويتضمن برنامج اللقاء كذلك جلسة عامة حول "إنشاء شبكة عربية للعدالة الانتقالية" وورشة موازية بين مقرّري الورشات ومنسّقيها لصياغة مشروع إطار عام لمنظومة متكاملة للعدالة الانتقالية، سيتم عرضه في الجلسة الختامية. يذكر أن المملكة المغربية بادرت منذ تسعينات القرن الماضي إلى خوض تجربة عربية فريدة في مجال العدالة الانتقالية من خلال فتح صفحة ماضي الانتهاكات وتسوية ملفاته، خاصة من خلال عمل الهيئة المستقلة للتحكيم وتعويض ضحايا الاختفاء القسري وهيئة الإنصاف والمصالحة التي تضمن تقريرها الختامي جملة من التوصيات الهامة، في مجالات الكشف عن الحقيقة وجبر الأضرار الفردية والجماعية وحفظ الذاكرة والإصلاحات المؤسساتية والتشريعية والحكامة الأمنية...
ما هي العدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية منهجية، تستهدف ماضي انتهاكات حقوق الإنسان ، وتحقيق الانتقال الديمقراطي وسيادة القانون بشكل مباشر وسلمي ، وإقامة المؤسسات الديمقراطية والدستورية التي تضمن عدم عودة الاستبداد مرة أخرى أو انتهاك حقوق الإنسان ،ومعالجة ملفات الماضي فيما يتعلق بالإنتهاكات، بواسطة العدالة الانتقالية التي لا تقوم على الثأر والانتقام، وإنما التوصل إلى حلول مقبولة من كافة الأطراف لإعادة بناء وطن للمستقبل يضم الجميع دون إقصاء ، قوامه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية ، حيث توفر العدالة الانتقالية فرصا لهذه المجتمعات إمكانية معالجة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية، بأقل قدر من الخسائر والأضرار، مع تعويض وجبر الضرر بالنسبة لضحايا الانتهاكات السابقة.مستهدفة تنظيم مرحلة الانتقال السياسي بحيث تتم معالجة نتائج جرائم الماضي، ومنع وقوع جرائم أخرى مستقبلا، مع عدم إغفال الصفة الجماعية لبعض أشكال الانتهاكات مثل عمليات الإبادة الجماعية والمذابح الجماعية والتطهير العرقي، وغيرها.
و تعمل آليات ومناهج العدالة الانتقالية وفق رؤية تكاملية يتم من خلالها طي صفحة الماضي وضمان الاستقرار في الحاضر وتحقيق العدالة الكاملة في المستقبل ، ومن خلال مصالحة وطنية مرضية يتم عن طريقها تحديد الأضرار والمتسبب فيها والتعويض العادل عنها للمستحقين.
تجربة جنوب أفريقيا
تعددت تجارب العدالة الانتقالية خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية في أوروبا وأمريكا اللاتينية خلال الانتقال من النظم الشمولية إلى النظم الديموقراطية ، إلا أنه بالنسبة للقارة الأفريقية فقد كان أبرز تجارب العدالة الانتقالية هي تجربة جنوب أفريقيا للتخلص من إرث حكم الفصل العنصري وما اشتمل عليه من انتهاكات لحقوق الإنسان ، ويليها التجربة المغربية.
وفي تجربة جنوب أفريقيا تم الاكتفاء بالاعتراف بما تم من الانتهاكات خلال الحكم العنصري عن طريق لجان استماع للضحايا وللجناة أيضا مع استبعاد خيار المتابعة خصوصاً بالنسبة للفاعلين السياسيين الذين شاركوا في وضع حجر الأساس للانتقال الديمقراطي وإقرار سيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
التجربة المغربية
عندما قرر السلطات المغربية في تسعينيات القرن الماضي التصالح مع قوى المعارضة اليسارية بعد طول صراع أضر بالطرفين معا ، وارتكبت الدولة فيه انتهاكات جسيمة في حق خصومها اليساريين ، لجأت الدولة لمنهج العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة مما جعل المغرب بمثابة أول دولة عربية انتهجت هذا الأسلوب للقطيعة مع انتهاكات الماضي وتحقيق مصالحة وطنية تم بموجبها أجراء إصلاحات سياسية والسماح للمنفيين في الخارج بالعودة مع إسقاط ما صدر في حقهم من أحكام غيابية والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتعويض كافة المتضررين وإدماجهم في أدارة الدولة ومؤسساتها.وتشكلت خلال تلك التجربة حكومة من المعارضة برئاسة السيد/عبد الرحمن اليوسفي الذي العائد من المنفى.وقد تم في هذه التجربة عمل لجان استماع للضحايا وصرف تعويضات مالية لهم .
أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في دول الثورات الثلاث
لقد كان أحد أسباب تعثر الثورة المصرية هو الإصرار على محاكمة رموز النظام السابق المتهمين بقتل الثوار وبجرائم مالية وعزلهم عن الحياة السياسية بينما كان هذا المطلب يتعارض مع ارتباطات المجلس العسكري الحاكم مع النظام والذي يعتبر في الواقع جزءا لا يتجزأ منه ، وتحت الضغط الشعبي اضطر إلى محاكمة الرئيس السابق وبعض معاونيه محاكمة استمرت عاما كاملا وفي النهاية تم تأجيل إصدار الحكم فيها حتى نهاية يونيو من العام الحالي. ولم تتمكن مصر من استرداد الأموال المهربة للخارج لعدم صدور أحكام قضائية ضد الرئيس السابق وأفراد أسرته بشأنها.
وفي نفس الوقت تقدمت تونس إلى حد ما على درب التحول الديمقراطي بعد أن تم منحه هو والتنمية أولوية على ما عداه من مطالب تتعلق بمحاكمة المسئولين السابقين. كما وجدت الحكومة الانتقالية غير قادرة على الاستغناء عمن يشغلون وظائف رئيسية ممن سبق لهم العمل ضمن النظام السابق لعدم إمكانية تعويضهم بغيرهم ممن لهم خبرات مكتسبة في مجالات عملهم . ومازالت الحكومة التونسية تتعرض لانتقادات محلية لهذا السبب.
أما ليبيا التي كانت الثورة فيها مدنية وانتهت بانتصار عسكري للثوار على كتائب القذافي فما زالت الرغبة في الثأر والانتقام هي المتأججة في صدور الثوار ، ويطالبون بحرمان كل من عملوا مع القذافي من الوظائف العامة بينما لا تجد الحكومة الانتقالية مفرا من الاستعانة بهم لتسيير شؤون الدولة.
ولذا فإن الدول الثلاث تعتبر في أمس الحاجة إلى تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وإحلال مصالحة وطنية تجمع كل القوى لتحقيق انتقال ديمقراطي من النظام الشمولي السابق إلى نظام سياسي جديد قادر على تحقيق الأماني الوطنية. ويتطلب ذلك تحرير الشعب من رواسب الماضي ونوازع الرغبة في الثأر والانتقام . ولا يمنع ذلك من محاكمة من ارتكبوا جرائم ثابتة بالأدلة، وخاصة الجرائم المالية، محاكمة عادلة، لكي يتسنى استرداد الأموال التي نهبوها أو هربوها إلى الخارج والتي لا يمكن استعادتها دون صدور أحكام قضائية تؤكد عدم مشروعية حصولهم عليها
.
فوزي منصور
دنيا الرأى