المتمرد المطيع
Le Père Francois Pfanner
في عام 1825 ولد التوأمان فاندلين بفانر كاهن المستقبل الذي أصبح اسمه لاحقا فرنسوا. عاش فاندلين في مقاطعة التيرول في جبال الالب النمساوي في مزارع ابيه, مما أكسبه جسدا قويا وخبرة في العمل اليدوي والزراعة, ولم يعكر صفو طفولته سوى موت والدته بعد إنجابها أختا له.
عرف عن هذا الطفل ذو الشعر الاصهب العنف الشديد والخشونة والعناد, فلم يكن يتوانى عن تسديد اللكمات لمن يزعجه أو حتى يرمقه بنظرة استخفاف, رغم أنه عاش في اسرة صالحة وتحت إرشاد عمه الكاهن.
في الثانية عشر من عمره أقدم على المناولة المقدسة, بعد أن كان قد اعترف بخضاياه وقرر إصلاح نفسه. وفي خضم هذه الافراح, أحس هذا الشاب بدعوة الله له لاتباعه في كهنوت, وفعلا بعد موافقة والده ومرشده, بدأ بدراسة اللاتينية ثم الفلسفة واللاهوت, حتى العشرين من تموز 1950م, عندما نال الرسامة الكنوتية.
عين الاب فاندلين كاهن رعية اسمها Haselstanden . وتجلى في هذه الرعية تفانيه وتضحياته وعناده, في ان يجمع أبناء رعيته الضائعين في السهر والشرب والقمار. وقد فلح في ذلك أخيرا عندما تفشى مرض التيفوس في الرعية, وشاهدت كل الرعية الأعمال والتضحيات التي بذلها الاب في سبيلهم متناسيا نفسه. حتى عام 1856, حيث اصيب الاب بفقدان أبيه وبتدهور صحته إثر إلتهاب الرئة, فشعر هو الآخر بدنو اجله فأراد أن يحضّر نفسه لتلك الساعة, فترك رعيته بعد أخذ إذن أسقفه ليترهب في الرهبنة المحتجبة Trappistes , الذين يقضون وقتهم في الصلاة والصمت والعمل. ولكن حدث ما لم يكن متوقعا, إذ أن صحة الاب مع العمل والغذاء النباتي البسيط تحسنت وتعافت. وتفاجئ الاب بتعينه رئيسا لديره. شعر الاب بواجبه في – نشرملكوت المسيح – حسب قوله في البلدان غير المسيحية والوثنية. فبدأ بإنشاء الأديرة وكان أول دير له في البوسنة في ظل الاحتلال التركي, ثم في افريقيا –في مقاطعة ناتال- بين الامم الوثنية. وبعد أن انهى خصوصا ديره في افريقيا بين القبائل الوثنية مثل قبيلة "الزولو", شعر الاب بغيرة عظيمة على هذه الخراف الضالة فلم يتردد في بناء المدارس لهم, وحتى إحضار راهبات لتعليم الإيناث, وتلقين كل أبناء المنطقة التعليم المسيحي, وفعلا نجح الاب في مسعاه نظير نجاحه في رعيته القديمة بمثله وإصراره, فعمد العديد من أبناء المنطقة. حتى أرسل العديد منهم لروما ليغدوا كهنه للأرض المحروقة وفعلا لم يخيبوا أمل أبيهم, ولم يكن الأب يتردد في التهاون مه بعض القوانين الرهبانية مثل: الصمت الدائم ونوعية الملابس للرهبان, لشعوره بأن القوانين التي تطبق في أوروبا لا تصلح كلها في إفريقيا لشدة الحر, وهذا من ناحية الملبس أما بالنسبة لقوانين الرهبنة الأخرى, فقد شعر بواجبه الرسولي نحو أهل تلك المنطقة, ولا ننسى المدارس التي افتتحها والراهبات اللواتي أحضرهن للدير, وكل ذلك أدى لزيادة غضب الرؤساء عليه رغم محاولاته لتبرير الظروف الراهنة القاهرة, فقد كان يصر على "إن الحرف يقتل", فقام الرؤساء بعزله عن الرئاسته ومن رتبة الأباتية, فقبل ذلك بكل طاعة ومن دون تذمر أو مسائلة هو الذي عمل مدة 25 سنة في سبيل خدمة الرهبنة والنفوس, يشهد له بذلك كل من عاش معه من رهبان وراهبات وحتى وثنيين.
كان هذا الاب رمزا للطاعة لرؤسائه. رمزا للتمرد على الصعاب وعلى الشر حيثما وجد. وفي النهاية اعترف البابا بيوس العاشر وكل الرؤساء الروحيين بفضله على الكنيسة, وأعلنوا انفصال هذا الاب عن الرهبنة المحتجبة لتكوين فرع جديد من رهبنته, تجمع بين الصمت المدوي والعمل الحثيث والتبشير الغيور. وسُر الأب بهذا القرار الذي أتاه قبل أيام من موته في أيار 1909 بين يدي أصحابه. ترجو الكنيسة وتثق بنفس الثقة التي أظهرها الأب تجاهها, بأنه سيغدو قديسا عاجلا أم آجلا...
ايها المتمرد المطيع.. علمنا الطاعة لرؤسائنا والتمرد على جميع الصعاب.