القداسة هدف الحياة الروحية
إن الطموح الأساسي للمسيحي الحق هو القداسة. فالقداسة هدف الإيمان المسيحي وغاية الحياة الروحية. وبذلك لا تهدف المسيحية، في عمقها، إلى تحقيق مؤسسات خيرية واجتماعية وفكرية وتربوية، إلا بمنظار هذا الطموح الأساسي، وهو إطلالـة الملكوت في المكان والزمان، في كل مكانٍ وكل زمان. أو لنقل بالأحرى: مؤسسات المسيحية هي شهادة لخبرة حب عميقة يعيشها مؤمنوها.
إن الحياة الروحية، بحسب مفهوم الإيمان المسيحي، هي أولاً وآخراً خبرة تحقيق قداسة الله في الواقع المعاش. فالقداسة من صفات الله القدوس. يدعى الإنسان إليها لكونه في أساس وجوده مخلوق على صورة الله القدوس. ويمّيز "الآباء" هنا في تأملهم نص خلق الإنسان بين "الصورة" و"المثال". فالله القدوس يخلق الإنسان على صورته أي شبيهاً به في الحرية والسيادة على الكون، ويدعوه إلى تحقيق التمثل به، أي أن يكون على مثاله في خبرة القداسة. وبذلك تصبح القداسة حركة تحقيق وتواصل مستمرة، فهي أكثر من أن تكون نهاية مسيرة، أو صفة دائمة لإنسان أو لقب شرف لبار، والدليل على ذلك فقدانها في حالة الخطيئة. إنها حركة مستمّرة، تستغرق أبدية الله وتلتحف عظمته. لذلك يمكننا القول أن القداسة هي حالة معينة تُختَبر، واقعٌ مميز يُعاش، من أهم خصائصها أنها لا تُحَد. من يختبرها "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر بل تقطع على المرء أنفاسه. وإنها لمساحات على أكمل ما تكون الحرية، وهذه المسافات نفسها هي حريات تجذب حبنا وتستقبله وتستجيب له.. وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود " (أنظر: بَلْتَسار (هانس أورس فون)، نؤمن، دار المشرق، ص88-89).
القداسة إذاً هدف الحياة الروحية، ولكن هذا الهدف يتحقق دون أن ينتهي، لأن الله لا ينتهي، والغاية هنا ليست مجرد فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو مشروع أو أي شيء آخر، الغاية هي فقط اللقاء بالله القدوس المحب، وتواصل اللقاء معه. تقول القديسة تيريزيا الأفيلية: "كلُّ شيءٍ يزول.. الله يبقى.. الله وحده يكفي..."
إذا كانت القداسة تشبّه بالله القدوس (1بط1/15-16)، هي أيضاً تشبّه بيسوع القدوس. إن لفظة "قدوس" أُطلقت على يسوع أيضاً، فهو "قدوس الله" (مر1/24، يو6/69) و"فتاه القدوس" (رسل4/27،30)، وبالرغم أنه من ذات كيان الله القدوس نراه يستمدُّ من أبيه القداسة، كما رأينا سابقاً حين تأملنا كيف كان يسوع يصلي. وبالمقابل، إذا كانت القداسة حركة "تشبّه" بالله القدوس وبابنه القدوس، هي أيضاً تشبّه بمن تلقى الروح القدوس، يقول بولس الرسول: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1كور11/1).. "لست أنا الحي إنما المسيح حيٌّ فيَّ" (غلا2/20).
لقد استطاعت الكنيسة عبر تاريخها، وبالإصغاء المرهَف للروح القدس، أن تعلن بعض الشخصيات التي حاولت مواصلة الانسجام والتجاوب مع مبادرة الله المحبة. أولئك الذين حاولوا تقبل سخاء الله ونعمه الغير المحدودة، فتلقوا "الروح القدس"، فنجحوا، فتقدّسوا، فكانوا ذلك “السحاب الكثير الكثيف من الشهود" (عب12/1) الممتلئ من محبة الله وقداسته.
سوف استعرض إليكم في هذه الأمسية المباركة نماذج من الذين صيّروا الأرض سماء. وأمام سخاء الله في قديسيه، لا يمكنني إلا أن اختار الغيض من الفيض. سوف أتكلم عن بعض القديسين الذين كان لهم صدى في تاريخ الروحانيات المسيحية. خصوصاً تلك التي استأثرت التزام الكثير إلى حياة الإيمان والشهادة أو التكريس والرهبنة. فالمنهج الروحي للقديس ليس هو فقط لأتباعه أو لأهل زمانه إنما هو كنز للكنيسة الجامعة تُثقفه حسب المكان والزمان.