كيف انتشرت المسيحية... بلا سيف ولا قتال ؟ !!!
بقلم / القس يعقوب عماري :
ـ نصل اليوم إلى هذا التساؤل فنقول :
العالم كله يشهد أن المسيح جاء برسالة سلام
لم ينطق بمثلها أحد ، فهو نادى وعلّم أتباعه الابتعاد عن الحروب والخصام
والعنف والتشاحن ، ودعى أتباعه أن يتسامحوا مع جميع الناس حتى ولو
اختلفوا عنهم في الرأي أو الدّين أو العقيدة .
ـ كما أدان المسيح أدواتِ الحرب وأساليب القتال ، وكلماته هناك جاءت قوية .
ففي أحد المواقف قال لواحدٍ من أتباعه حاول أن يدافع عن سيده ،
فاستلّ سيفه وضرب أحد مهاجميه ، فقال له المسيح :
" رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ " ،
بمعنى أنّ الذين ينادون بالحروب يؤخذون بها ، وبالمقابل ،
فالمسيح نادى بالتسامح ، إذ قال :
" أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ . بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ . أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ،
وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ " .
وقال: " طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا
عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ ، مِنْ أَجْلِي ،
كَاذِبِينَ اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا ، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ " .
وفي إحدى خطبه المشهورة بالعظة على الجبل
قال لشعبه : " طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ ،
لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ . طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ،
لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ " .
وقال : " أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ... " ، " أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ..." ،
" فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ ،
لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَة ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ " .
وقال أيضاً : " سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ : عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ .
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ : لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ،
بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا " .
كما قال : " لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا " .
فكيفما قلَّبنا صفحاتِ إنجيله نجده يتحدث عن السلام والحب والتسامح مع الغير،
ويرفض الحرب والانتقام من الطرف المعادي . فالمسيح بهذه المبادئ علّم شعبه
أن يكونوا مسالمين محبين متسامحين . والجدير بالذكر أنه هو نفسه طبّقها على ذاته ..
فعندما صلبوه وأهانوه وهو معلَّقٌ على الصليب ، صلّى قائلاً : " يَا أَبَتَاهُ ، اغْفِرْ لَهُمْ ،
لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " .
أيها الأصدقاء : تخطرني اليوم نبوَّة وردت عن المسيح في سفرٍ إشعياء ،
وإشعياء النبي هذا عاش قبل ميلاد المسيح بسبعمائة وخمسين سنة ،
لكنه تحدّث عن المسيح بأنه سيُولد من عذراء ، وأنه سيكون رئيساً للسلام ،
وتحدّث عن ألوهيته بهذا الكلام صريح : " هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ ،
حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي . أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ .
لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ .
قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ ( أي لا يؤذي حتى القصبة المرضوضة ) ،
وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ ،حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ .
وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ"
( متى 18:12-21 ) .
هنا يُذكّر البشير متى قرّاءه بما ورد في هذه النبوَّة .
فالنبوَّة تنطبق تماماً على صفات وسلوكيات المسيح ،
فهو لم يؤذِ من عاداه ، ولم يدعُ بالخراب على مقاوميه ،
ولم يجنّد أتباعه لمعاداة من رفض رسالته ، ومع ذلك انتشرت رسالته
وعمّت شعوب الأرض حتى أصبحت الديانة الأكثر انتشاراً في العالم !!!
ما السر في ذلك ؟
من الجدير بالذكر هنا أن أتباع المسيح ساروا من بعده على نفس النّهج ،
وعملوا كما أوصاهم سيّدهم. فبعد صعوده
إلى السماء ومغادرته الأرض حملوا رسالته ،
وقاموا بنشر الدّعوة بين الشعوب ، ودعوا الناس للتوبة والإيمان بالإنجيل .
وكثيرون استشهدوا ولم يحملوا سيفاً في وجه أحد ،
ولم يُكرهوا أحداً للدخول في دين الله ،
بل قدّموا ما لديهم من رسالةٍ بأسلوبٍ إنسانيٍّ لطيفٍ بلا تهديدٍ أو وعيدٍ ،
وتركوا للناس الخيار في القبول أو الرفض دونَ استعلاءٍ على أحد .
فمنْ قبِلَ رسالتهم قَبِلها بحريّته واعتزَّ بها وتغيّر،
ومن لم يقبل رَجَوا له الهداية دون إيذاء ، إذ كيف للعقل أو الضمير
أن يُجبَرَ على عقيدةٍ لم يقتنع بها بقرارٍ ذاتيٍّ دون إكراه !
والعجيب هنا أنه مع كل هذه السماحة وهذا اللّين انتشرت المسيحية
بهذا الاتساع حتى أصبحت أكبر ديانة في العالم دون قتالٍ !
فكيف قضت المسيحية على أصنام الشعوب الوثنية
واجتذبت أتباعها دون حربٍ أو إذلال ؟ !
ومن جهةٍ أخرى ، لنفترض جدلاً أن المسيحية كافرة تنادي ( بثلاثة آلهة ) !
كما يتوهّم البعض ، أو أنها مبنية على باطل كما يحلو للبعض أن يصوِّرها ،
فديانةٌ بهذا البُطْل كيف امتدّت واتّسعت بدون الله ، وكيف نجحت في مسعاها
ولا ربٌّ يباركها ولا سيفٌ يحميها ويشقُّ طريقها بين الشعوب ؟
والمُذهل أنْ الشعوب الوثنية التي تتجاور مع أوساط مسيحية ،
تطمئن لها وتشعرُ بالأمان حتى ولو بقيت على دينها ،
لأن المسيحية لا تُهدِّد ولا تتوعَّد . فالمحبة لديها أقوى من السلاح
وصولةِ الرّماح ، والدعوة للإيمان لديها لا تتأتى بقهر الشعوب وإذلالها ،
لأن الخوف أو الرّعب والترهيب يشلُّ العقل ، ويُغيّب الإرادة ،
وينفي فرصة الاختيار الحرّ لدى الإنسان . بينما في المقابل المحبة تخترق القلوب ،
وتلثمُ الجراح ، وتعطي الدفء والاطمئنان، وتغرس في النفس المستهدفة
نفسيَّة هادئة مرتاحة ، وتنفي عنها الشعور بعدائية الطرف الآخر .
ولذلك نقول إن انتشار المسيحية الواسع في العالم مردُّه إلى سلاحٍ أمضى
من السيف والعصا والخنجر . فبالحب والرحمة والعطف والحنان تشكّلت
الأدوات القتالية، وهذه التي شقَّت الطريق أمام المسيحية لتصل إلى مختلف الشعوب .
والشعوب التي قبلت دعوتها تميّزت بين الأمم ، والأفراد الذين التزموا
بمبادئ الإيمان المسيحي تميّزوا بين أقرانهم وفي مجتمعاتهم ،
والمواطنون من حولهم يدركون ذلك ويشهدون له .
قارئي الكريم ،
المسيحية هي المسيح ، والمسيح هو المسيحية ! ومن التزم بتعاليم المسيح في إنجيله
لا يقدر إلا أن يسلك بنفس الروح التي نادى بها المسيح وعلّم . فالحب ،
والتّسامح ، والصدق ، والأمانة والطهر، والرحمة ، والإنسانية ،
هذه ليست مجرّد شعارات ترفعها المسيحية ، بل هي مبادئ فعلية تمارسها وتنادي بها .
وهي ما أورثها المسيح لأتباعه ، وبها انتشرت إلى زوايا الأرض دون غالب أو مغلوب ،
لأن السّعي ليس لإذلال الآخر ، والشعوب التي اختارت المسيحية
اختارتها بملء حريتها.
في هذا قال أمير الشعراء أحمد شوقي :
وُلد الرّفقُ يوم مولد عيسى
والمروءات والهدى والحياءُ
وسرَت آية المسيح كما يسري
من الفجر في الوجود الضياءُ
إلى أن قال :
لا وعيدٌ لا صولةٌ لا انتقامٌ !
لا حسامٌ لا غزوةٌ لا دماءُ !
أبياتٌ صادقة تصوّر الحقيقة ، وتتناغم مع ما طرحناه من إيضاحٍ للتساؤل
في كيف انتشرت المسيحية بين شعوب الأرض دون
أن يدعمها حسامٌ أو غزوةٌ أو قتال !
أليس في هذا سرّ يحتاج للبحث والتأمل ؟ !
أوَليس الحبّ أقوى من الكراهية!... والتسامح أقوى من الانتقام ! ...
والرحمة أقوى من قسْوة السلاح !... والرفقُ أقوى من وحشية الحروب !
واللجوء إلى الله بضميرٍ حرٍّ دون إكراه أقوى
من الرمح والعصا أو الخنجر والبندقية ! ؟
فالعصا لا تُجبرني على الصلاة والإيمان بالله .
لكنني بالحبِّ اقترب إلى الله وأفتح القلب إليه ليدخل ويملك عليه...
بهذا الأسلوب قدَّمت المسيحية رسالتها للشعوب ، وأثمرت في ما سعت إليه ،
وما زالت وستبقى هكذا حتى قيام الساعة .
* المصـدر / منتدى : الكـــرازة بالأنجيــــــــل .