خادم المسيح مشرف (ة)
الجنس : عدد المساهمات : 24257 التقييم : 4957 تاريخ التسجيل : 11/08/2012 البلد التي انتمي اليها : العراق
| موضوع: ╬ القدّيس كريكور ( غريغور ) ناريكاتسي .. وجهٌ من آباء الكنيسة الأرمنيّـة ╬ الخميس أبريل 24, 2014 8:33 pm | |
| القدِّيس كريكور ( غريغور ) ناريكاتسي .. وجهٌ من آباء الكنيسة الأرمنيَّة : بقلم : المطران بطرس مراياتي .. تحتفل الكنيسة الأرمنيَّة في العام 2004 بذكرى مرور * 1001 * سنة على وفاة الراهب القدِّيس كريكور ( غريغور ) ناريكاتسي Grégoire de Narek الذي يُعَدّ من كبار آبائهـا اللاهوتيّين والنسّاك المتصوِّفين والأدباء الروحيّين . وهو يتمتّع بطابع مسكونيّ ، إذ تعترف بسموّ تعاليمه الروحيَّة وقداسته جميع الكنائس الأرمنيَّة الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة والإنجيليَّة . ولا عجبَ إذا تقدَّمت البطريركيَّة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة بطلب إلى قداسة الپاپا يوحنّا پولس الثاني تلتمس فيه إعلان القدِّيس كريكور ناريكاتسي معلِّماً مَلفاناً في الكنيسة الجامعة . اسم كريكور يعني في اللغة الأرمنيَّة " غريغوريوس " أي الساهر . وأمّا لقب ناريكاتسي فيعني بالصيغة الأرمنيَّة انتسابه إلى دير " ناريك " حيث نشأ وترهّب وتوفّي ودُفن . وقد دعاه بعضهم " بالناريكيّ " نسبة إلى دير " ناريك " بحسب الصيغة العربيَّة . كان دير ناريك يقع على بُعد 4 كم إلى الجنوب من بحيرة " فان " في أرمينيا الكُبرى ( تركيّا حاليّاً ) . وقد تهدّم في العام 1895 ، ولم تبقَ منه سوى الآثار والأطلال . سِيرة القدِّيس كريكور ناريكاتسي . + وُلِدَ كريكور في العام 951 في مقاطعة " واسبوراكان " جنوبيّ أرمينيا الكُبرى ( تركيّا حاليّاً ) لوالدَين تقيّين ، فكان طفلهما الثالث بعد إسحق ويوحنّا . توفّيت والدته وهو حديث السنّ . أمّا والده خسروف فكان رجلاً مثقَّفاً يلفت الأنظار بتديّنه وتقواه . فعهد بولدَيه الصغيرَين ، يوحنّا وكريكور، إلى الراهب حَنَنيا عمّ والدتهما ، وكان آنذاك رئيس دير ناريك . فأقاما عنده ونالا عن يده تربية دِينيَّة ممتازة لما كان يتمتّع به من تبحّر في الفلسفة والآداب وتعمّق في اللاهوت والكتاب المقدَّس وإلمام بالعلوم واللغات ، حتّى إنّه لُقِّب بالفيلسوف . وبعد أن ترمّل خسروف انتسب إلى سلك الكهنوت . ونظراً إلى غزارة عِلمه نال درجة الأسقفيَّة على كرسيّ انتسيفا فدُعي " انتسيفاتسي" . وله مؤلَّفـان في شرح القدّاس والفرض الإلهيّ . نهل كريكور في دير ناريك ما نهل ، فجمع بين الدروس العالية والحياة النسكيَّة والفضائل السامية . ثمّ نال سرّ الكهنوت المقدَّس ، وبقي ناسكاً زاهداً في دير ناريك طوال حياته . ولمّا انتخب الرهبان أخاه يوحنّا ليكون مترئِّساً بينهم بعد وفاة حَنَنيا تفرّغ كريكور لإرشاد الرهبان الأحداث وتأليف الكُتُب . عُرف كريكور بتواضعه ، بالرغم من عِلمه الوافر . وذاعت شهرته في جميع أنحاء أرمينيا لما كان يتحلّى به من مقدرة على الوعظ والكتابة بلغة ناصعة بليغة طوّعها لإعلان كلمة الله . فعُدّ من الشعراء الكبار في الأدب الأرمنيّ القديم ، وأحد أئمّة الموسيقا الكنسيَّة ، إذ لحّن بنَفْسه عدداً كبيراً من أناشيده التي كتبها في العذراء مريم فدُعي بحقّ : " كنّارة العذراء مريم " . ولقد وصفه المؤرِّخ صموئيل أنيتسي بقوله : " لمع كالشمس في الحكمة والعِلم " . توفّي كريكور في رائحة القداسة عن عمر يناهز الخمسين وقد أنهكته الحياة التقشّفيَّة . وقال فيه القدِّيس نرسيس لامبروناتسي : " هو ملاك في جسد " . وزادت شعبيّته بعد وفاته عمّا كانت عليه في أيّام حياته . فكان المؤمنون يؤمّون ضريحه من كلّ حدب وصوب للتبرّك به . وكانت كُتُبه تُنسخ وتُوزّع على نحو منقطع النظير . فأُعلنت قداسته ودخل اسمه السنكسار الكنسيّ الأرمنيّ . وتثبّت عيده في عداد الآباء المترجِمين في الأسبوع الثالث بعد عيد السيّدة ( عند الكاثوليك ) ، أو في الأسبوع الرابع بعد ارتفاع الصليب ( عند الأرثوذكس ) . مؤلَّفات القدِّيس كريكور ناريكاتسي ، إنّ المؤلَّف المهمّ الأوّل ، الذي أعدّه كريكور هو " شرح نشيد الأناشيد " ، وكان ذلك في السنة 977 . جاء الكتاب في أسلوب بليغ وأفكار واضحة تُشير إلى ما يرمز إليه سِفْر الأناشيد من ارتباط بين الله وشعبه في العهد القديم ، وبين الكلمة المتجسِّد والكنيسة في العهد الجديد . أمّا المؤلَّف الثاني فهو " تاريخ صليب أبارَنْك " Aparank ، وقد وصف فيه كيف انتقلت ذخائر الصليب المقدَّس من القسطنطينيَّة إلى أرمينيا . ثمّ أضاف إليه مَديحَين هما تحفة في الجَمال : " مَديح الصليب المقدَّس " و" مَديح والدة الله " ، في السنة 984 . والثاني نشيد من 25 مقطعاً يتغنّى فيه بأُمومة مريم الإلهيَّة وكمال النِعمة فيها وانتقالها إلى السماء وشفاعتها القديرة . ويُعَدّ من أجمل ما كَتَبه الآباء في العذراء مريم والدة الإله . لدينا أيضاً من القدِّيس كريكور ثلاث خُطَب في صورة طلبة، عَنوَنها " كنـز " : في " حلول الروح القُدُس " ، وفي " الكنيسة المقدَّسة " ، وفي " الصليب المقدَّس الذي حمل الله " . كما له مَديح في " الرُسُل والتلاميذ السبعين " الذين يعتبرهم أعلى مرتبة من سائر القدِّيسين . ومَديح في " القدِّيس يعقوب النصيبيـنيّ " الذي كان ذكره يُحاط بإكرام خاصّ بين الأرمن . أضفْ إلى ذلك نحو عشرين نشيداً يُرجَّح أنّها تعود إلى أيّام حداثته وكلّها في مواضيع دِينيَّة . أمّا مؤلَّفه الأخير " كتاب الصلوات " أو " كتاب المراثي " فهو أهمّ ما كَتَب . وتجدر الوقفة عنده . " كتاب الصلوات " أو" كتاب المراثي " لعلّ أفضل ما كَتَبه القدِّيس كريكور فاقترن باسمه واشتهر به هو " كتاب المراثي " أو " كتاب الصلوات " الذي أنجزه السنة 1002، أي قبل وفاته بسنة واحدة . يشتمل هذا الكتاب على 95 صلاة غنيَّة بقيمتها الروحيَّة تجمع بين رفعة التصوّف وروعة الشِعر. وهي في صورة " حِوار مع الله من أعماق القلب " أو " مناجاة " كما يقول في مطلع المقطوعات . وهو يُنهيها بكلمة " آمين " . وقد أُطلق على هذه الصلوات تعبير " المراثي " أو " المأساة " لما طغى عليها من أسلوب الرثاء والفنّ الأدبيّ المأسويّ ، وفيها يرثي الكاتب وضعه الخاطئ ويذرف دموع الندامة ويصف صراعه الداخليّ بين الخير والشرّ، وبين الجسد والروح ، وبين النُور والظلام . ونِعمة " ذَرْف الدموع " عند النسّاك ليست بكاء على الماضي وحسب ، بل هي جلاء البصر وتنقية البصيرة لرؤية رحمة الله الواسعة وترجّي عفوه ورضاه . وقد دخلت بعض الصلوات في الطقوس الليتُرجيَّة الرسميَّة التي لا تزال الكنيسة الأرمنيَّة تستخدمها حتّى يومنا هذا لما فيها من سموّ روحانيّ وعُمق إيمانيّ وتعليم دِينيّ وتوجيه أخلاقيّ . ولمّا كانت الصلوات موضوعة بلغة أرمنيَّة كلاسيكيَّة قديمة لا يفْقَهها الشعب فقد قام مترجمون عديدون في العصر الحديث بنقلها إلى اللغة الأرمنيَّة الحديثة وإلى لغات أُخرى منها العربيَّة . ولكن ، مهما تنوّعت هذه الترجمات وتعدّدت فإنّها لا ترقى إلى بلاغة الأصل . ولعلّ رغبة قدِّيسنا تحقّقت بهذه الترجمات التي بدأت في العام 1961، إذ ذكر في صلاته الثالثة أنّ كتابه موجَّه إلى " جميع أجيال الجنس البَشَريّ العائش على الأرض ... إلى سائر جماعات المسيحيّين العديدين في العالَم كلّه " ! وتجدر الإشارة إلى أنّ الأرمن لا يذكرون عنوان الكتاب ، بل يقولون : " ناريك " وكفى ! فبعد أن كانت هذه الكلمة تُشير إلى الدير الذي أقام فيه القدِّيس كريكور، أصبحت مرادفاً لكتابه ، ثمّ غدت ، على مرّ الأجيال ، اسماً عَلَماً يُعطى للأولاد ويُطلق على الكهنة يوم رسامتهم تيمّناً بالقدِّيس وكتابه . يُعدّ كتاب " ناريك " ، بالنسبة إلى المؤمنين الأرمن ، رديفاً للكتاب المقدَّس فيجلّونه ويحفظونه بتقوى ، ويجدون فيه غذاءً روحيّاً ويعتقدون أنّ صلواته تغفر الخطايا وتشفي المرضى وتحمي من المكروه وتُنجّي من الشرور وتقود إلى الكمال . حتّى إنّ بعض المتديّنين كانوا يحفظونها عن ظهر قلب . كما يُنصح، حتّى يومنا هذا ، بوضع الكتاب قرب السرير وفوق رأس المريض وعلى وسادة المنازع ... فلا تجد بيتاً إلاّ وفيه نسخة من كتاب " ناريك " ! لقد كان " كتاب الصلوات " سبباً لارتداد كثيرين من الخطأة ونبراساً للمؤمنين في سلوك طريق التوبة فدعاه بعضهم " دواء الحياة " . ما سرّ هذا الكتاب ؟ إنّه التصوّف المسيحيّ في أبهى تجلّياته . يتوجّه الكاتب بثقة إلى الله ، معتبراً نَفْسه أكبر الخاطئين في العالَم ، وراجياً رحمته اللامتناهية وراغباً في الاطّهار والاتّحاد به . هذا هو شأن المتصوّفين . فكلّما ساروا على طريق الكمال واقتربوا من السماء شعروا بالانسحاق والتلاشي ، وآثروا الاعتراف ، حتّى بالهفوات ، ليكونوا مستعدّين للاتّحاد بالذات الإلهيَّة . فماذا لو علمنا بأنّ الكلمات التي سُخِّرت للتعبير عن هذا الشعور الروحانيّ جاءت مسبوكة في إيقاع شِعريّ زاخم ومفردات ثرّة مبتكَرة اعتبرها فحول اللغة الأرمنيَّة ذروةً في الإعجاز ؟ ! أضفْ إلى ذلك أنّ الصلوات مُشبعة بآيات من الكتاب المقدَّس تصل إلى ألفين وستّين استشهاداً كتابيّاً ، يستقي منها المؤلِّف الصُوَر والتشابيه والاستعارات ليعبّر عمّا يختلج في نَفْسه من تجرّد كلّيّ واستسلام للمشيئة الربّانيَّة وأمل بالخلاص وتَوقّ إلى الانصهار في كِيان الله . إنّ مَن يتلو الصلوات بتُؤَدَة وخشوع يشعر وكأنّه يتلو مزامير مسيحيَّة معاصِرة . ما يشدّ الانتباه أنّ الصفات العديدة التي يُناجي بها كريكور ربّه تُحاكي ، إلى حدّ بعيد ، " أسماء الله الحُسنى " . كما أنّ معظم الصلوات ( 69 من 95 ) موجَّهة إلى السيّد المسيح الذي يعتبره محوَر رؤيته التصوّفيَّة ويهفو قلبه إلى لقياه وجهاً لوجه . هذا ويغرف من مَعين آباء الكنيسة البيزنطيَّة والسريانيَّة ، فيتبنّى تعاليمهم وتفسيراتهم الكتابيَّة في أسلوب شاعريّ يرقى به إلى قِمم الفِكْر الدِينيّ . حتّى قال فيه أحد النقّاد : " إنّه المعلِّم الخالد ، والميت الحيّ أبداً " . ولكن ، ما نفع الحديث عن مؤلَّف إن لم يُقرأ ؟ ! إليكم بعض الصلوات النموذجيَّة المقتطفة من " ناريك " ترجمة الأب جورج عقل اليسوعيّ لتكتشفوا وجهاً جديداً في عالَم التصوّف المسيحيّ المشرقيّ سبق ، بعقود ، كبار المتصوّفين الغربيّين أمثال القدِّيسين بِرنَردُس وتيريزيا الآبِليَّة ويوحنّا الصليبـيّ وغيرهم . | |
|