فلسفة الاخذ والعطاء للمتنيح الپاپا شنوده الثالث
هل نحن في حياتنا نأخذ أم نعطى ؟ أم نحن نأخذ ونعطى، أم نأخذ ولا نعطى ؟ لسنا نستطيع أن نفهم كل هذا ،
ما لم ندرك في عمق : ما هي فلسفة الأخذ والعطاء .
كلنا في الحياة نأخذ ونعطى .. وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطى ، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطى ،
أو لا يشعر إطلاقًا أنه يعطى , مسكين ذلك الشخص الذي يظن أنه لا يأخذ شيئًا ، أو الذي لا يحس ما قد أخذه .
إنه يعيش تعيسًا في الحياة ، شاعرًا بالظلم .. وشاعرًا بالعوز، ويقضى عمره في التذمر وفي الضجر
وفي الشكوى ، وفى الافتقار إلى الحب .
واحد فقط ، يعطى باستمرار دون أن يأخذ من أحد ، إنه الله .
والله وحده يعطى الكل، ولا يأخذ من أحد شيئًا .. لأنه لا يحتاج إلى شيء ، فهو مكتف بذاته ،
كامل في كل شيء ، يملك كل شيء ، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله .
ولكن لعل البعض يسأل : ألسنا في الصلاة نعطى الله وقتًا ، ونعطيه قلبًا ، ونعطيه حبًا ؟ ! كلا ،
ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للصلاة , إننا عندما نصلى ، إنما نأخذ من الله نعمة ، ونأخذ منه بركة ،
ونأخذ منه كافة احتياجاتنا الروحية والمادية .. بل نأخذ أيضًا لذة التخاطب معه ،
ولذة الوجود في عشرته الإلهية , إن الذي يظن أنه يعطى الله وقتًا .. ويعطيه ركوعًا وتسبيحًا وتمجيدًا ،
ما أسهل عليه أن يمتنع أحيانًا عن الصلاة محتجًا بأن ليس له وقت ليعطيه !
وما أسهل على هذا الإنسان أن يجدف على الله الذي يطالبه بكل هذا التسبيح والتمجيد !! والذي يفرض
عليه كل هذه الفروض ! وما أسهل على هذا الإنسان أن يحتج بأنه ليست لديه صحة للصوم ،
وليست لديه رغبة للتعبد ، وليس لديه وقت للصلاة , وأن قام بمثل هذه العبادة ،
يقوم بها بطريقة حرفية آلية لا روح فيها .
الواقع إننا نصلى لأننا محتاجون إلى الله ، لذلك نبسط إليه أيدينا إشارة إلى أخذنا منه , إن أفواهنا تتقدس
عندما تلفظ اسمه القدوس ، وقلوبنا تبتهج بعشرته وإنه لتواضع كبير من الله أن يسمح لنا بمخاطبته ،
ومنه عظيمة منه أن يوقفنا أمامه .. لذلك في كل مرة نقف للصلاة ، ينبغي أن نشكره - تبارك اسمه -
على هذا التفضل والتواضع .
وعندما يقول الله : " يا ابني أعطني قلبك " ، إنما يقصد : أعطني هذا القلب لأملأه بركة وحبًا وطهارة .
أعطني هذا القلب لكي أقدسه وأنقيه وأغسله من جميع أقذاره ، وأرفعه عن مستواه الأرضي
لكي أجلسه في السماويات، وأريه مجدي .. لذلك في كل مرة نذهب فيها للصلاة ، ينبغي أن نشعر
بأننا نأخذ ولا نعطى ، وإنها بركة لنا وليست فرضًا علينا .
هذا من جهة الله ، وأما من جهة الناس ، فإنني أسأل : أترانا حقًا نعطيهم شيئًا مهما كنا محبين وكرماء ؟
نحن لا نملك شيئًا لنعطيه , كل الذي لنا هو ملك لله ، استودعنا إياه ، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا .
( اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات ) .
كل ما نتبرع به لمشروعات الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبي : " من يدك أعطيناك " .
تمامًا كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه ، ومنهما قد أخذ المال الذي اشترى به هذه الهدية .
إن الله قد أعطانا اليد التي تعطى ، وأعطانا الخير الذي نعطى منه ، بل قد أعطانا أيضًا محبة العطاء .
نعم ، حتى موهبة العطاء قد أخذناها منه , هذه الفضيلة ، فضيلة العطاء ، قد تفضل الله فأنعم بها علينا .
هي جزء من عمله فينا ، وجزء من مؤازرة نعمته لنا , لأن كل موهبة صالحة ، هي نازلة من فوق ، من عند الله .
كل شيء نعطيه سنجده في الأبدية .. وسنأخذ أكثر منه بكثير, وسنرى أن المكافأة في السماء أغزر وأوفر.
فالشيء الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا ، هو محجوز لنا فوق، لم يضع .
في الواقع أننا لم نعطه ، وإنما ادخرناه! فأين العطاء إذن ؟ !
إننا نعطى الفانيات ونأخذ الباقيات ، نعطى الأرضيات ونأخذ السماويات , نعطى المادة ونأخذ البركة .
لا شك أننا نأخذ أكثر مما نعطى .
لذلك أيها القارئ العزيز، عوِّد نفسك على العطاء .. فقد قال الكتاب : " مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ " .
أعط بفرح وليس بتضايق لأن الكتاب يقول : " المعطى بسرور يحبه الرب " , وأعط عن حب وعن عاطفة .
وأعط بوفرة وبكرم أعط وأنت موسر، وأعط وأنت معوز، فالذي يعطى من أعوازه ،
يكون أعظم بكثير ممن يعطون من سعة , وأجره أكبر في السماء .
وإن لم يكن لك ما تعطيه ، أعط ابتسامة طيبة ، أو كلمة تشجيع ، أو عبارة تفرح قلب غيرك .
ولا تظن أن هذا العطاء المعنوي أقل من العطاء المادي في شيء ، بل أحيانًا يكون أعمق منه أثرًا ،
ولكن حذار أن تكتفي بالعطاء المعنوي إن كان بإمكانك أن تعطى المادة أيضًا .
واشعر - عندما تعطي - أنك تأخذ , إن السعادة التي يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره ،
هي شيء كبير أسمى من أن يقتنى بالمال .. إن راحة الضميرالتي تأخذها ، وفرحة القلب برضى الناس ،
كلها أمور أسمى من المادة قد أخذتها وأنت تعطى .. وستأخذ أعظم منها في السماء .
وعندما تعطى لا تحقق كثيرًا مع الذي تعطيه , وإلا كانت منزلتك هي منزلة قاض لا عابد .
لا تحقق كثيرًا لئلا تخجل الذي تعطيه ، وتريق ماء وجهه , أعطه دون أن تشعره بأنه يأخذ .
حسن إنك قد أعطيته حاجته ، أعطه أيضًا كرامة وعزة نفس ، ولا تشعره بذله في الأخذ .
وعندما تعطى أنس أنك قد أعطيت , ولا تتحدث عما فعلته ، بل لا تفكر فيه , ولعل هذا هو
ما يقصده السيد المسيح بقوله : " إذا أعطيت صدقة ، فلا تجعل شمالك تعرف ما فعلته يمينك " .
وإن تذكرت قل لنفسك : " أنا لم أعط هذا الإنسان شيئًا ، بل هو الذي أعطاني فرصة لأسعد بهذا الأمر " .
إن الأم تعطى ابنها حنانًا ، إنما تسعد هي نفسها بهذا الحنان , وهى عندما ترضعه ، إنما تشعر براحة ،
ربما أكثر من راحته هو في الرضاعة , ذلك إن عمل الحب هو عمل متبادل يأخذ فيه الإنسان أثناء إعطائه لغيره .
وعمل الخيرالذي لا تأخذ منه سعادة ، ليس هو خيرًا على وجه الحقيقة , إن أجره ليس فيه ،
وليس فيما بعد , انه عمل ضائع .
كذلك عندما تأخذ ، خذ من الله وحده ، وممن يرسلهم الله إليك , وحاذر من أن تأخذ
من الشيطان شيئًا ولا من جنوده , إن الشيطان عندما يعطى ، يأخذ أكثر مما يعطيه .
قد يعطيك لذة الجسد ، ويأخذ منك كرامة الروح , وقد يعطيك الكرامة .
ويأخذ منك الاتضاع ، وقد يعطيك الغنى ، ويأخذ منك الزهد ، ويعطيك الدنيا ، ويأخذ منك الآخرة
ويعطيك اللهو والعبث ، ويأخذ منك الحكمة والرزانة , ويعطيك اللعب ، ويأخذ منك النجاح .
إنه يأخذ الجوهرة التي فيك، ويعطيك القشور التي لها .
تخطئ إن ظننت أنك تأخذ منه شيئًا , إنك الفاقد ، ولست الآخذ ، ولست المعطى , أما الله ،
فإنه يعطى على الدوام ، ويعطى بسخاء ولا يعير، ويعطى عطايا صالحة تليق بصلاحه .
إننا نعيش في عطائه كل لحظة من حياتنا .
أما الله ، فإنه يعطى على الدوام ، ويعطى بسخاء ولا يعير، ويعطى عطايا صالحة تليق بصلاحه .
إننا نعيش في عطائه كل لحظة من حياتنا .
المصدر / الأنجيل الأجبيّــة | مواقـع |