عيد الدنح المجيد :
::: مقدّمة :::
إنَّهُ عيد الدِّنح أي عيد الظُّهور وَدِنح " كَلِمَة سريانيَّة ( دِنحو ) تَعني ظُهور " . وَ لَكِن :
مَنِ الذي ظَهَرَ؟ إنَّهُ الثَّالوث الأقدَس ! ظَهَرَ الإبْنُ على الأرض ، صَنَعَ مَشيئَةَ الآب ،
فَحَلَّ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُس ، وَرَضِيَ عَنْهُ الآب فَسَمِعَ النَّاسُ صَوتَهُ :
» هوذا ٱبْنِي الحَبيب الذي بِهِ رَضيت « .
وَنحنُ : بَعدَما ظَهَرنا على هذه الأرض ، وحَلَّ عَلَيْنا الرُّوح القُدُس في العِماد ،
هَل نَصْنَعُ مَشيئَةَ الآبِ لِنَسْتَحِقَّ أنْ نُدعَى لَهُ أبْناء ،
وَلِنَكونَ إخْوَةً لِيَسوعَ المَسيح ، فَيَرْضَى
عَنَّا الآب ؟ يا من قدّست لنا المياه باعتمادك وأعطيتنا أن نقبل عماد الماء والرّوح
فنصبح أبناء لأبيك وإخوةً لك وسكبت في قلوبنا الإيمان بالثّالوث ، معك الكنيسة ترفع صلاتها
إلى الآب لتكون بنوّتنا ظهور ( دنح ) محبّة فيعرف العالم أنّك تحبُّنا وأنَّنا نُحِبُّكَ . آمين .
صلاة :
> نَشْكُرُكَ يا أبانا القُدُّوس على عَطاياكَ ٱللامُتَناهِيَة التي وَهَبْتَها لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَّا . نَشْكُرُكَ لأنَّكَ
خَلَقْتَنا وَجَعَلْتَنا أبْناءً لَكَ في ماءِ العِماد . نَشْكُرُكَ على ٱهْتِمامِكَ بِنا وَرِعايَتِكَ لَنا . نَشْكُرُكَ
على صَوْتِكَ القُدُّوس الذي يُدَوِّي لَيْلَ نَهار في قُلوبِنا وَفي ضَمائِرِنا .
نَشْكُرُكَ أيُّها الإبْنُ ٱلحَبيب ، على وِلادَتِكَ وَعِمادِكَ ، وَعلى تَبْشيرِكَ ، وَعَلَى مَوْتِكَ وَقِيامَتِكَ .
نَشْكُرُكَ لأنَّكَ أعْطَيتَنا وَحَمَّلْتَنا ٱسْمَكَ في المَعْمودِيَّة ، وَوَلَدْتَنا مِنْ جَديد أبْناءً للحَياةِ وَالمَلَكوت .
نَشْكُرُكَ على تخليصِكَ لَنا مِنْ عُبودِيَّةِ الخَطيئَةِ وَالمَوت .
وَنَشْكُرُك أيّها الروحَ ٱلقُدُّوس لأنّنا تعَمَّدْنا بِك بالنَّارِ للحَياةِ ٱلأبَدِيَّة .
للثالوث الأقدس المتجلّي في الدنح ٱلمَجْدُ مِنَ ٱلآنَ وَإلى الأبَد ، آمين . >
الرسالة :
11 لأَنَّ نِعْمَةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَتْ خَلاصًا لِجَمِيعِ النَّاس ،
12 وهِيَ تُؤَدِّبُنَا لِنَحْيَا في الدَّهْرِ الـحَاضِرِ بِرَزَانَةٍ وبِرٍّ وتَقْوَى ، نَابِذِينَ الكُفْرَ والشَّهَوَاتِ العَالَمِيَّة ،
13 مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ السَّعِيد ، وظُهُورَ مَجْدِ إِلـهِنَا ومُخَلِّصِنَا العَظِيمِ يَسُوعَ الـمَسِيح ،
14 الَّذي بَذَلَ نَفْسَهُ عَنَّا ، لِيَفْتَدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم ، ويُطَهِّرَنَا لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا ،
غَيُورًا على الأَعْمَالِ الصَّالِحَة .
15 تَكَلَّمْ بِهـذِهِ الأُمُورِ وَعِظْ بِهَا ، ووَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَان . ولا يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَد .
1 ذَكِّرْهُم أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِين ، ويُطِيعُوهُم ، ويَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح ،
2 ولا يُجَدِّفُوا على أَحَد ، ويَكُونُوا غَيْرَ مُمَاحِكِين ، حُلَمَاء ، مُظْهِرِينَ كُلَّ ودَاعَةٍ لِجَميعِ النَّاس .
3 فَنَحْنُ أَيْضًا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أَغبِيَاء ، عَاقِّين ، ضَالِّين ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَواتٍ ولَذَّاتٍ شَتَّى ،
سَالِكِينَ في الشَّرِّ والـحَسَد ، مَمْقُوتِين ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا .
4 ولـكِنْ لـَمَّا تَجَلَّى لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنَا ، ومَحَبَّتُهُ لِلبَشَر،
5 خَلَّصَنَا ، لا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا ، بَلْ وَفْقَ رَحْمَتِهِ ، بِغَسْلِ الـمِيلادِ الثَّاني ،
وتَجْدِيدِ الرُّوحِ القُدُس ،
6 الَّذي أَفَاضَهُ اللهُ عَلينَا بِغَزَارَة ، بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا .
7 فإِذا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ ، نَصِيرُ وَارِثِينَ وَفْقًا لِرَجَاءِ الـحَياةِ الأَبَدِيَّة .
( طي 2 : ـ 11 - 3 ـ 7 )
أفكار من الرسالة :
يَأتي هذا النَّصّ مِن الرِّسالةَ ( طي 2 : 11 – 3 ـ 7 ) في سِياقِ حَديثٍ يُوَجِّهُهُ مارپولُس
إلى تِلميذِهِ تيطُس ، ذاكَ الذي تَخَرَّجَ عن يَدِهِ بَعدَما حَصَلَ على التَّعليم الصَّحيح ، بِخُصوصِ
اختِيارِ أساقِفَة وَكَهَنَة ، وَوَعْظِ وَتَأديبِ المُؤمِنينَ بِيَسوعَ مِن أطفالٍ ( راجع طي 2 : 5 )
وشُبّانٍ ( راجع طي 2 : 6 ) وَعائِلات ( راجِع طي : 2 : 3 و4 ) .. في الكَنيسَة
التي في كريت، تلك الجَزيرَة التي سَبَقَ الرَّسول وَتَعَرَّفَ عَلَيْها ، وَلَرُبَّما بَشَّرَها ، خاصَّةً
وَأنَّهُ يَعلَمُ جَيِّداً حالَةَ أهلها الرُّوحِيَّة والإجتِماعِيّة المُذرِيَة . فَكَيفَ يُحَدِّد لَنا بولس الرّسول
صِفات المَسيحيّ ؟ وَما الذي يَجعَلُ مِنَ الشَّخصِ مَسيحيًّا حَقيقيًّا ؟
يَصِفُ پولُس في بِدايَةِ الرِّسالَة حالة رَعِيَّتَهُ في كريت آخِذاً عِبارَةً عَن لِسانِ أحَد شُعَرائِها :
" إنَّ الكريتيينَ كَذَّابونَ أبَداً وَوُحوشٌ خَبيثَة وَبُطونٌ كَسالَى "
( طي 1: 12 ) .
وَيُشَدِّد على عَدَم إيْمانِهِم ، وَوَقاحَتِهِم ، وَنَزعَتِهِم للدُّخولِ في مُماحَكاتٍ وَصِراعاتٍ هَدَّامَة .
وَحَثَّ پولُس مُباشَرَةً - بَعدَ التَّوجيه الحازِم بِوُضوحِهِ وَدِقَّتِهِ بِخُصوص عَيش الإيمان في وجه
عَدَم الإيمان الكريتيّ - تِلميذَهُ تيطُس لِيَضَع الأشخاص أمامَ نقيضَين :
إمَّا أن يَكونوا كريتيين ( مَعَ ما تَعنيه هذه الكَلِمَة ) ، أو مَسيحيين .
فَپولُس يُشَدِّد على أنّ المُؤمِن ، المَسيحي الحَقيقي ، لا يَستَطيع أن يَكونَ كالكريتيين ،
لأنَّهُ يَحصَل على نِعمَة الله " يَنبوع الخلاص لِجَميع النَّاس "
( طي 2: 11 ) .
فَمَن حَصَلَ على هذه النِّعمَة لا يَحُقُّ لَهُ ، بَل لا يَستَطيع
أن يَفعَلَ الشّرّ، لا يَستَطيع ألاَّ يَنتَظِر تَجَلِّي مَجد الله في نِهايَة الزّمان ،
وَألاَّ يَكونَ على أتَمّ الإستِعداد بالتّقوَى والبِرّ وَالحِرص
على الأعمال الصَّالِحَة ( راجع : ط 2 : 12 و 13 ) .
وَيُوضِح بولُس كَيفَ كانوا ( كَمَسيحيين ) سابِقاً كالكريتيين ،
" أغبياء ، عاقّين ، ضالّين ، مُستَعبَدينَ لِشَهَواتٍ وَلَذَّاتٍ شَتَّى ، سالِكينَ
في الشّرّ والحَسَد ، مَمقوتين ، مُبغِضينَ بَعضُـ ( هُم ) بَعضاً "
( طي 2: 3 ) : فلا داعي للتَّكَبُّر على الكريتيّ ! .
للخُروجِ مِنَ هذا الوَضع المُذري الذي كانوا يَقبَعونَ في ظِلِّهِ ، لا يُعطي پولُس أهَمِّيَّةً
فَقَط للأعمال الصَّالِحَة التي يجِب أنْ يَكونَ المَسيحيّ على أتَمّ
الإستِعداد وَالتَّأهُّب لَها ( راجِع : طي 3 : 1 ) ؛
بَل أيْضاً هُناكَ الرَّحمَة التي يَمُنُّها الله ، وَكَلِمَة " رحمة " تَأتي من الجذر الآرامي " رَحَم "
( أي الرّحم ) ، أي الخَلق الجَديد ، " غُسل الميلاد الثّاني "
( طي 3: 5 ) .
وَقَدْ عَنَى پولُس بِذَلِكَ : الخُروج من رَحم المَعمودِيّة بَشَراً جُدُد ،
مَسيحيين حَقيقيين ، مَوسومونَ بالرُّوحِ القُدُس الذي أفاضَهُ يَسوع
( راجِع : طي 3: 6 ) ، يَحمِلونَ النِّعمَة ، وَهُم مَسؤولونَ
عَن صَلاحِ كُلّ عَمَل يَقومُون بِهِ .
هذه هي النِّعمَة التي تُؤَدِّبنا لِنَكونَ مَسيحيينَ حَقيقيين :
لِنَسْتَحِقّ الحَياة ! هذه هيَ المَعمودِيَّة التي تَلِدُنا بَشَراً حَقيقيين ، نَعيشُ بِسَلامٍ مَعَ أنفُسِنا ،
مَعَ الآخَرينَ ، وَمَعَ الله ! هذه هيَ المَعمودِيَّة التي تَغسِلُ خَطايانا ، تُؤَدِّبنا ، لا بالكَلام ،
بَل بالمَثَل الذي أعطانا إيّاه مَن هوَ دونَ خَطيئَة
إذ اعتَمَد ! نِعمَة المَعمودِيَّة هذه ، هيَ التي حَصَلنا عَلَيْها لَمَّا كُنَّا أطفالاً :
هَل نَشعُر اليَوم بِمَسؤولِيَّتنا تِجاهها ؟
هل نحنُ على قَدْرِ هذه النِّعمَة التي تَجعَل مِنَّا مَسيحيين حَقيقيين ؟
هَلاَّ عَلِمْنا نحنُ الذينَ خَرَجْنا مِن أرحامٍ بَشَرِيَّةٍ ، أنَّنا وُلِدْنا مُجَدَّداً مِن حَشا المَعمودِيَّة ،
أبْناءً لله ؟ فَهَل نَشْعُرُ بِهذه البُنُوَّة ، عالِمينَ أنَّنا لا نَسْتَطيعُ أن نَكونَ أبْناءً لَهُ وَنحنُ كريتيُّون ؟
أعطِنا رَبِّ ، أن تُؤَدِّبنا نِعْمَتَكَ ، التي حَلَّت عَلَيْنا مُنذُ صِغَرِنا ، فَنَحيا مَعَكَ . آمين .
الإنجيل :
15 وفيمَا كانَ الشَّعْبُ يَنتَظِر، والـجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ في قُلُوبِهِم عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هُوَ الـمَسِيح ،
16 أَجَابَ يُوحَنَّا قَائِلاً لَهُم أَجْمَعِين : " أَنَا أُعَمِّدُكُم بِالـمَاء ، ويَأْتي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي ،
مَنْ لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رِبَاطَ حِذَائِهِ .
هُوَ يُعَمِّدُكُم بِالرُّوحِ القُدُسِ والنَّار .
17 في يَدِهِ الـمِذْرَى يُنَقِّي بِهَا بَيْدَرَهُ ، فيَجْمَعُ القَمْحَ في أَهْرَائِهِ ،
وأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأ " .
18 وبِأَقْوَالٍ أُخْرَى كَثيرَةٍ كانَ يُوحَنَّا يَعِظُ الشَّعْبَ ويُبَشِّرُهُم .
19 لـكِنَّ هِيرُودُسَ رئِيسَ الرُّبْع ، وقَد كانَ يُوحَنَّا يُوَبِّخُهُ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ أَخِيه ،
ومِنْ أَجْلِ كُلِّ الشُّرُورِ الَّتي صَنَعَها ،
20 زَادَ على تِلْكَ الشُّرُورِ كُلِّهَا أَنَّهُ أَلقَى يُوحَنَّا في السِّجْن .
21 ولـمَّا اعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ ، واعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا ، وكانَ يُصَلِّي ، انفَتَحَتِ السَّمَاء ،
22 ونَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ في صُورَةٍ جَسَديَّةٍ مِثْلِ حَمَامَة ، وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول :
" أَنْتَ هُوَ ابْنِي الـحَبِيب ، بِكَ رَضِيت " .
( لو 3 : 15 -22 ) .
أفكار على ضوء والإنجيل :
يُورِدُ لوقا النَّص الذي نقرَأهُ في هذا العيد المَجيد ، بعدَ أن أظهَرَ لَنا كَيفَ أنَّ يوحَنَّا
أعَدَّ طَريقَ الرَّب ( راجع : لو 3: 4 - 6 ) ، وسارَ أمامَ يَسوع ، يَحُثُّ النَّاسَ
على أن يَبقوا مُستَعِدِّينَ لِقُدُومِ السَّيِّد ، في جَوِّ يَسودُ فيه السّلام والعَدل والحَقّ
( راجع : لو 3 : 10-14 ) .
في هذا الجَوّ ، يَبدَأ النَّص بِصورَة جَميلَة ، تُعَبِّرُ عَن
مَدَى شَوق الشَّعب لِتَجَلِّي المَسيح في وَسَطِهِ ، وَهيَ الإنتِظار.
هذا الانتِظار لم يَكُن عَبَثِيًّا ! هذا الإنتِظار كانَ يَملؤهُ الرَّجاء ، بِأن سَتَكونُ
على الأرضِ أيّامُ السّماء ! أتى يوحَنَّا في زمن الإنتِظار هذا، ورَآهُ الشّعبُ عَظيماً في مَوليد النِّساء ،
وَقَد اعتَبَرَهُ نَبِيًّا . أتى يوحَنَّا يُطَهِّرُ بِعِماد الماء الخطايا وقد جَذَبَ صَوبَهُ الشَّعب ،
حَتَّى إنّ النّصّ يَقول لَنا : " ... ٱعتَمَدَ الشَّعب كُلُّهُ ... "
( لو 3: 21 ) .
وبالرُّغم من ذلك كُلِّهِ ، لم يُنادي يوحَنَّا لِنَفْسِهِ ، بَل كانَ بِأعمالِهِ وَأقوالِهِ وَتعاليمَهُ يُشيرُ
إلى شَخصٍ آخَر، إلى مَن هوَ أقوَى مِنهُ ، مَن لا يَستَحِقُّ أن يَفُكَّ رِباطَ نَعلَيه ( راجع لو3: 16 ) .
هذا الآخَر، لا يُعَمِّدُ بالماء ، بَل بالرُّوح القُدُس والنَّار، أي يُعطي النِّعمَة التي تُغَيِّر،
إذ تَرمُز النَّار إلى عمل الله الذي يُنَقِّي الإنسان من كُلِّ شائِبَة ، مِن كُلِّ غَبْشٍ يَمنَعهُ مِن رؤيَةِ الحَقيقَة ،
كَما يَحصَلُ للذَّهَبِ عِندَما يُمَحَّصُ بها ، وَيَأتي هُنا ذِكر الرُّوح القُدُس كاستِباق لِحَدَث العنصرة ،
إذ حَلَّ على التَّلاميذ في العليّة بشبهِ ألْسِنَةٍ منْ نار ( راجِع : أع 2 : 3 ) .
أخيراً ، وَعِندَما " ... ٱعتَمَدَ الشَّعب كُلُّهُ ... "
( لو3: 21 ) .
أتى يَسوع ، يُحَقِّقُ ما قالَهُ يوحَنَّا ، ليسَ بالسُّلطَة والقُوّة ، بل بالتَّواضُع والمَحَبَّة
الذَينِ يَفتَرِضانِ أوَّلاً النُّزول إلى مُستَوَى الآخَر وَحَمْلِ خَطيئَتِهِ .
فَيَسوع ، وهوَ بلا خَطيئَة ، انتَظَرَ فَراغ الشَّعب
كُلُّه من العِماد ، أي من تَطَهُّرِهِ مِن خَطاياه بِغُسلِ الماء على يَد يوحَنَّا ، فَنَزلَ إلى هذه الماء
نفسها ، حامِلاً خَطايا الشّعب كُلِّه ، مُحْنِياً رَأسَهُ باتِّضاعٍ أمامَ يوحَنَّا خَليقَتِهِ ! في هذه اللحظة
حَلَّ الرُّوح ، وَأعلن الآبُ رِضاه ، فَظَهَرَ الثَّالوثُ الأقدَس بِأبْهَى تَجَلِّياتِهِ : الإبن ، " حَمَل الله "
( يو1: 36 ) .
الذي يَحمِل خَطايا العالم مُتَمِّماً مَشيئَة الآب ، الرُّوح الذي يَحِلّ مُرافقاً الإبن في رسالته
على الأرض ، والآب الذي يُعلِنُ بِصَوْتِهِ رِضاه عَن إبنِهِ الذي – كَما قُلنا - يُتَمِّمُ مَشيئَتَهُ
بِخَلاصِ البَشَرِيّة ، بِطاعَةٍ وَتَواضُع .
إذا ما تَأمَّلنا في انتِظار الشَّعب الذي تَكَلَّمَ عَنهُ لوقا الإنجيلي ، نَرَى أنَّهُ انتِظارٌ باحِث :
" كُلٌّ يَسأل نَفسَهُ عَن يوحَنَّا هَل هوَ المَسيح "
( لو3: 15 ) .
غالِباً ما ننتَظِرُ مَن يُعطينا الأمَل وَيُخَلِّصنا . وَغالِباً ما يَكونُ انتِظارُنا
عَن يَأسٍ وَقُنوط ، أو عَن مَعرِفَةٍ بِأن لَيسَ أمامَنا سِوَى الإنتِظار،
وَلَكِن ، هَل كانَ يَوماً انتِظارُنا انتِظاراً باحِثاً ؟
هَل لنا أن نخرُج مِن السّلبيّة في التَّصَرُّف عالِمينَ أنَّ الإنتِظارَ يُصبِحُ قاتِلاً
إن لم نَملأهُ بالعَمَل وَالبحث عَن الحَقيقَة لِخلاصِ نُفوسِنا ؟
وَإن قُمنا بِعَمَلٍ جَيِّدٍ وَمُفيد ، جاذِبينَ أنظارَ النَّاس ، كَما حَدَثَ
مَع يوحَنَّا ، ما عَسَى يَكون مَوقفنا في ذلك الوقت ؟ هَل نُظهِر الإرتِياح وَنَبني لنا مَجداً
على أساسِ ذلك ؟ أم نُشيرُ إلى المُعطي الأوّل ، الذي وَهَبَنا القُوّة والمعرفة لِنَقومَ بهذا العمل ،
على مِثالِ يوحَنَّا ؟ مَن هُوَ القَوِيّ بِنَظَرِنا ؟ وَإلى مَن نُشير؟ إلى زَعيم أو مُتَمَكِّن ،
يَنتَقِد الآخَر، يَدينُ وَيَصْرُخُ مُخاصِماً ؟
أم نُشيرُ إلى ذلِكَ الإله الذي لا يَموت ، الذي سَتَرَ خَطيئَةَ الجَميع ،
لا بَل حَمَلَها ، وَبِتَواضُعِهِ جَلَسَ على عُروشِ القُلوب ، مُنقاداً لإلهام الرُّوحِ ، مُستَحِقًّا رِضَى الآب ؟
أخيراً مَن هوَ أقوَى مِنِّي ، وَأينَ هوَ ؟ هَل هُوَ زَعيمٌ أدعَمُ مَواقِفَهُ بِرِيائِها ؟
أم هوَ الله فقط ؟
لم يَخَف يوحَنَّا مِن القَول بأنّ يَسوع ( هوَ ، الله ) هوَ أقوَى منه ، فَلَم يَهابَ حَتَّى هيرودس ،
ذلك الملك الخاطِئ ، فَوَبَّخَهُ بِقُوَّة ، وَدَخَلَ السِّجنَ ، غَيرَ مُبالٍ إلاَّ بالحَقيقَة الواحِدَة ، وَهيَ أنَّ الله
هوَ المَلِك وَالقَوِيّ الوَحيد ( راجع : لو3: 19و20 ) . هَل لَنا الجُرأةَ أن نَرَى سَيِّئات الذينَ
نَدعَمهُم بِآرائِنا اليَوم ، فَيَكونَ لَنا حِسٌّ ناقِدٌ بَنَّاء ، غَيرَ مُبالِين بِما يُمكِن أن يُحَقِّقُوهُ لَنا
من مَصالِح ، مُعْلِنينَ أنَّ القَوِيّ الوَحيد ، وَالمُنَزَّه الوَحيد هوَ يَسوع ؟
تأمّل روحي :
إبن الله !
إبن الله ، الكلمة المتجسّدة ، عاش بيننا لابساً جسمنا ، لكنّه لم يكن في ما هو لنفسه
أو يتطلّبه العالم أن يكون ، بل كان في ما هو للّه في كلّ شيء .
وكان ينمو في القامة كما في الحكمة والنعمة إلى يوم اعتماده
على يد يوحنا ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره .
" ولما اعتمد الشعب كلّه اعتمد يسوع وكان يصلّي ... أنت هو ابني "
هو الإله ، أتى إلينا صائراً مثلنا ، متضامناً مع ضعفنا وآدميّتنا الخاطئة ،
كي ينزع مناّ خطر الموت الأبدي ويعيد لحياتنا عافيتها ، كما المِشرطِ بِيَد الجرّاح ،
يتعامل مع القسم المريض من الجسد كي يستأصل هذا الأخير لينقذ صاحبه من الأسوأ .
لقد طَبَعَنا بحياته على الأرض ، لا بكثرة المواعظ أو خطابات المنابر، ولا بفريّسيّه العطاء
أو الشفاءات كما أنه لم يؤلّف المجلّدات والقواميس كي تشرح ماهيّته .
كان ، كإنسان ، شديد التميّز، وكإله ، كان في الثالوث حاضراً ، فتجلّى الآب بصوته معلنًا
هويّة الإبن ، والروح القدس بحلوله عليه ، فمسحه كي يباشر الرسالة علانيّةً .
ونحن هل يمكننا أن نكون أبناءاً للله في العالم ؟ هل يمكننا أن نتميّز بحياتنا ومسيحيتنا
دون أن نَنْزوي أو نتنسّك ؟ هل نؤمن بأنّ تميّزنا هو الإمتلاء من نعمة الله كي نفيض على الآخرين
مماّ وضعه داخلنا ؟ هل تنبّهنا إلى أن تميّزنا يتعلّق بما امتلأنا به ،
إن كان صالحاً تألّق وجه الخالق في أعمالنا وبان حضوره ، وإن كان سيّئاً ،
جَلَبنا الشتيمة والعار لأنفسنا وأحياناً لمن ربّانا أي الأب والأمْ .
في أياّمنا هذه ، ماذا نريد أن نسمع ؟ أي صوت ؟
صوت الله يكلّمنا أم صوت العالم في عبارة :
" هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت " ؟ هذا يتوقّف على إقرارنا ببنوّتنا :
أبناء من نحن ، ؟ الله أم العالم . هل نعمل ما يُرضي الله في فِعلِنا وردود فِعلِنا ؟
هل نُحسِن الصلاة من القلب أم نردّد كلماتٍ دون روح ولا طعم ؟
ربّما مازلنا نخجل أن نُعلن بنّوتنا للّلهِ ونفتخر بكلّ ما صنعه لنا من عظائم .
اليوم نحن " المتحضّرين ، أبناء عصر الإنترنت " ، ألا نسارع إلى تلبية أية دعوة لدخول
أيّ صفحة ، أكانت تجاريّة أو لاأخلاقيّة ؟ بإختصار، ما يسيء للإنسان وروحه ،
أو إلغاء أي إيميل يدعوني إلى التأمّل في الله وعلاقتي به ؟ تُرانا نتهافت إلى تلقّف كلّ ما ينهمر علينا
من " هدايا " بالكلمة والصورة ونهمل أجملها :
الصلاة ، تلك الهدية المجاّنية .
إن هناك ما يُدمي القلب اليوم ، حين ترى الناّس يتهافتون لسماع البذيء من النكات
والعبارات ، فيضحكون ويقهقهون ويتناقلونها بين بعضهم دون أن يدركوا
أنها ستأخذ بهم كالنار في الهشيم .
وهناك ما يُبكي حين نرى البعض ينتظر عبارةَ " أنت ابني الذي عنه رضيت
" من العالم الذي يغذّيه بالأنانية ، والتمرّد والفوقيّة ...
ويُنادي مِن على السطوح بشريعة العين بالعين وأكثر،
لكنّه يخجل أن يذكر اسم الله أمام الآخرين ، لأن الخوف من حكم العالم عليه ينهش قلبه
ويتملّك عقله ... ما زال يخاف ... ، ما زال عبداً ... ، لم يتحرّر بعد ... ! لم يصبح بعدُ
" الإبن الحبيب الذي عنه يرضى الآب " . وأنت ، إبن من تريد أن تكون ؟
المصدر / موقع الكنيسـة الألكترونيــة .