- "أَمَّا أَنَا فَأُغَنِّي بِقُوَّتِكَ وَأُرَنِّمُ بِالْغَدَاةِ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي وَمَنَاصاً فِي يَوْمِ ضِيقِي.
يَا قُوَّتِي لَكَ أُرَنِّمُ لأَنَّ اللهَ مَلْجَإِي إِلَهُ رَحْمَتِي". (مز59: 16, 17)
- "لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَإِلَى الْغَمَامِ حَقُّكَ". (مز57: 10)
تعريف الرحمة
الرحمة هي عدم الميل للانتقام والبحث عن أفضل ميزة للذي أخطأ في حقي على الرغم من خطأه المتعمد ضدي.
الرحمة هي أعمق تعبير عن المحبة المتحننة المترئفة التي لا تتغير، فهي إمتحان لصدق الحب
- "لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ وَإِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُهُ" (مز100: 5)
علاقة الرحمة بالمحبة
- "اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا..."(أف2: 4)
يتضح من هذه الآية أن مصدر رحمة الله الغنية هو المحبة الكثيرة التي يُحبنا بها, أي أن رحمة الله هي واحدة من روافد الحب الإلهي للإنسانية, فهي بذل مضحي نابع من حنان لشخص غير مستحق.
- "يُحِبُّ الْبِرَّ وَالْعَدْلَ امْتَلأتِ الأَرْضُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّبِّ". (مز33: 5)
- "اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ". (مز107: 1)
مظاهر رحمة الله:
• غفران الله
الغفران هو التعبير الصادق عن رحمة الله المتدفقة.
- "لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا". (مز103: 11, 12 )
من كثرة رحمة الله على حياتنا قرر أن يُبعد عنا خطايانا إلى أقصى ما يمكن أن يبعدها.. إلى بعد المشرق عن المغرب.. إلى البعد الذي فيه لا يلتقي هذين النقيضين
- "الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِك"ِ (مز103: 3 )
- "وَأَنْتَ لَمْ تَدْعُنِي يَا يَعْقُوبُ حَتَّى تَتْعَبَ مِنْ أَجْلِي يَا إِسْرَائِيلُ. لَمْ تُحْضِرْ لِي شَاةَ مُحْرَقَتِكَ وَبِذَبَائِحِكَ لَمْ تُكْرِمْنِي. لَمْ أَسْتَخْدِمْكَ بِتَقْدِمَةٍ وَلاَ أَتْعَبْتُكَ بِلُبَانٍ. لَمْ تَشْتَرِ لِي بِفِضَّةٍ قَصَباً وَبِشَحْمِ ذَبَائِحِكَ لَمْ تُرْوِنِي لَكِنِ اسْتَخْدَمْتَنِي بِخَطَايَاكَ وَأَتْعَبْتَنِي بِآثَامِكَ. أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا". (إش 43: 22-25 )
في الآية السابقة يوضح الله أن شعبه لم يصنع أي شئ لكي يقترب اليه بل على العكس لقد أهانوا الله بخطاياهم وأتعبوه بآثامهم، ولكن كان قرار الله الثابت دائماً هو أن يمحي خطاياهم فلا يعود يذكرها.
- "قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ إرْجِعْ إِلَيَّ لأَنِّي فَدَيْتُك" (إش44: 22 )
في هذه الآية نجد أن غفران الله الذي يؤدي الى عدم وجود الخطية وظهورها مرة أخرى سابق لتوبتنا, فالله يتكلم أنه محى الخطية وسدد دينها، لذلك يدعو الشعب إلى الرجوع إليه وليس العكس، فالتوبة هنا هي الأداة التي نستقبل بها غفران الله وليس هي شرط الغفران، فالغفران غير مشروط, لأن الغفران قد صنعه الله, وهذا ما يتضح جلياً في قصة الابن الضال(لو15: 11- 32) فالأب قد غفر للابن كل ما صنع حتى قبل رجوع الابن إلى بيت والده, وقبل أن يقدم اعتذاره وتوبته أمامه. وعندما حاول الابن أن يقدم الاعتذار منعه أبوه من أن يكمل ما قد شرع في قوله لأن الابن قد ظن أن الاعتذار عن الخطأ هو الذي سيجعل الأب يسامحه وكأن الاب ينتظر اعتذار الابن لكي يهدأ ويفكر في أن يغفر له, لكن الاب كان قد سامحه حتى قبل أن يفكر الابن في الرجوع اليه, فالغفران غير مشروط مثل محبة الله التي هي غير مشروطة. التوبة تتيح لنا أن نستقبل هذا الغفران لنستمتع به وهذا ما فعله الابن الضال برجوعه إلى بيت أبيه, ولكن إن ظل الابن الضال في الكورة البعيدة في نفس الوقت الذي فيه الاب قد أطلق له الغفران فإنه لن يستطيع أن يستمتع بهذا الغفران.
نحن نعامل بعضنا البعض بهذه الطريقة فنحن لانغفر زلات وأخطاء الآخرين إلا عندما يأتون ويتأسفون نادمين على فعلتهم في حقنا، وعندئذ نفكر أن نغفر لهم أخطائهم, ونظن أن الله يعاملنا بنفس هذه الطريقة فهو ينتظرنا أن نأتي راكعين متوسلين باكين طالبين الغفران عن خطايانا وإذا رضى الله عنا وحازت دموعنا وتوسلاتنا رضاه فإنه يعلن لنا الغفران عن خطايانا وآثامنا. ليس هذا هو الله الذي نعبده ونحبه فهذا إله مزيف خلقناه بأنفسنا على صورتنا المشوهة كشبهنا في طريقة تفكيرنا المضطربة. ليس الله كذلك فهو الأب المحب الذي يغفر لنا خطايانا ونحن بعد في الكورة البعيدة وحتى دون أن نطلب الغفران, وكل ما يمزق قلبه هو أننا نعاني مرارة الخطية ونئن تحت وطأتها ونرزح تحت ثقلها، وهو يشتاق دائماً أن نُقبل اليه لكي يُمتعنا بحلاوة غفرانه ويعلن لنا قبوله الغير المشروط وحبه غير المحدود. هذا هو إلهنا الذي يدعونا أن نكون مثله كما كان قد خلقنا على صورته وكشبهه ولكن تسرب الخطية إلى هذه الصورة أفسدها وشوهها فلم يعد الانسان قادر على التمييز بين الأصل الحقيقي والصورة المشوهة.
- "مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ! لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ فَإِنَّهُ يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ. يَعُودُ يَرْحَمُنَا يَدُوسُ آثَامَنَا وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ". )مى7: 18 (
• طول أناته ولطفه
- "الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤوفٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ"(مز103: 8 )
- "اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَة"ِ (مز145: 8 )
- "وَلَكِنْ لأَجْلِ مَرَاحِمِكَ الْكَثِيرَةِ لَمْ تُفْنِهِمْ وَلَمْ تَتْرُكْهُمْ لأَنَّكَ إِلَهٌ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ". (نح9: 31 )
- "إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ.هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ" (مرا3: 22- 23 )
الله في رحمته الكثيرة لا ييأس منا، لكنه في محبته لنا يصبر علينا ويحتمل ضعفنا وعناد قلبنا.. إنه يتأنى ويرفق علينا بل مع كل إشراقة شمس يوم جديد هناك رحمة جديدة وفرص متجددة مدفوعة لحياتنا من قلب إله رحيم وطويل الروح. قد نيأس نحن من أنفسنا ونصاب بالفشل والاحباط من محاولاتنا ولكن رحمة الله وطول أناته علينا أقوى من خطايانا وضعفاتنا. ليس هذا ما نفعله مع الآخرين أو حتى مع أنفسنا فعندما نخطئ ونكرر خطأنا مرات ومرات نظن أن الله قد يأس منا وأصابه الضجر من محاولاتنا الفاشلة وأعياه الإحباط من الفرص الضائعة التي يعطيها لنا، لكن طول أناة الله علينا وصبره واحتماله لنا فوق الحدود ليس له نهاية.
إن الرب يسوع وهو يُقدم للجموع مثل الإبن الضال، كان في الحقيقة يعلن عن طول أناته وتمهلات قلبه الرحيمة وانتظاره لكل إبن يضل عنه باختياره.. إنه لا ينتظره بالتوبيخ واللوم بل بالرحمة والحب.
إن محاولات ابليس لكي يفسد أذهاننا وقلوبنا عن من هو الله، هي محاولات تشويه لصورة شخص الله، فيشوه رحمة الله في أعيننا، فبدلاً من طول أناته علينا يُشعرنا بالذنب على خطايانا، وبدلاً من الإرتماء في أحضان إله ينتظرنا نهرب من إله صنعه إبليس في أذهاننا ممتلئ باليأس والغضب منا.
• بحثه عنا في وسط خطايانا
الله ليس فقط اله غافر الإثم وطويل الروح بل أكثر من ذلك هو إله يبحث عنا وسط خطايانا.. ينادي علينا مذكراً إيانا بغفرانه وفداؤه الذي صنعه لأجلنا.
"قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ ارْجِعْ إِلَيَّ لأَنِّي فَدَيْتُكَ "(إش44: 22 )
وهذا ما نجده واضحاً في إنجيل لوقا الإصحاح (15) عندما بدأ المسيح يتكلم إلى العشارين والخطاة فكلمهم الرب يسوع بمثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود ثم اختتم المثل بمثل الابن الضال على اعتبار أن هذه الأمثال الثلاثة ذات مغزى واحد، ففي المثل الأول والثاني أشار الرب يسوع بوضوح إلى قلب الله الذي يهتم ويبحث عنا في وسط خطايانا, فالرحمة هي أن الله هو الذي يأخذ المبادرة للبحث عنا وليس أن ينتظرنا حتى نأتي نحن إليه.
- "أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟" (لو15: 4 )
• الصليب
الصليب ليس فقط هو التعبير عن المحبة بل هو أصدق تعبير عن المحبة المضحية المترأفة والمتحننة على الانسان الذي لا يستحق, والآية التالية تجسد صورة الصليب:
- "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا". (إش53: 6)
بعد أن ضللنا وملنا إلى طرقنا المعوجة عاصيين الله وكاسرين وصاياه, قرر الله أن يدفع ثمن خطايانا وهذا الثمن ليس فضة ولا ذهب بل كان الثمن هو حياة الرب يسوع نفسه.. لم تكن خطيتنا ضد آخر بل كان إثمنا موجه ضد الله شخصياً. لقد جمع الصليب كل العناصر التي لا يمكن أن تجتمع معاً، فقد جمع بين رحمة الله الكثيرة وبين قساوتنا الشديدة.. بين الحب العظيم وبين الخيانة النكراء, وهكذا صرخ يسوع على الصليب:
«يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».(لو23: 34)
كان الرب يسوع يبحث عن سبب يبرء به ساحة الذين صلبوه، إنهم لا يعلمون ماذا يفعلون وهم الذين قد صنعوا كل هذا بتدبير متقن وعن قصد واعي، لكنه على الصليب غفر لهم خطاياهم حتى دون أن يتوبوا ويندموا على فعلتهم الشنعاء
- "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا...وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ". (إش53: 10- 12)
قيمة الرحمة الإلهية:
• باب الله دائماً مفتوح
الله دائماً فاتح ذراعيه لقبول كل شخص يرجع اليه من الظلمة والكورة البعيدة, فباب رحمة الله دائماً مفتوح على مصراعيه مهما كانت خطيتنا وحالتنا الاثيمة فهو لم ييأس منا على الاطلاق ودائماً في الانتظار.
• تقودنا إلى التواضع والانكسار وعدم الدفاع عن أنفسنا فكما رحمنا الله وغفر آثامنا فنحن علينا أن نعترف بأخطائنا في حق الله والآخرين مادامت رحمة الله وطول أناته متاحة لجميع الناس.
• علينا أن نتعلم أن نرحم الآخرين
فكما رحمنا الله وغفر خطايانا، علينا نحن أيضاً أن نرحم إخوتنا ونغفر أخطائهم في حقنا.
- "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ." (مت5: 7)
- "لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ".(مت7: 2)
وإليكم هذا المثل الذي رواه الرب يسوع في(مت18: 23- 35)عن العبد المديون الذي سامحه سيده بعشرة الآف وزنة وفي نفس الوقت لم يرد ذلك العبد أن يسامح رفيقه بمائة دينار فقط بل مضى وألقاه في السجن حتى يوفي الدين، وعندما سمع السيد بما فعل ذلك العبد دعاه سيده وقال له:
"أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ»".