من هم الشهداء؟
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
حينما نتكلم عن الشهداء إنما نتكلم عن جماعة عددها عظيم. طلبت للشهادة أمام الحكام والولادة وقتلوا من أجل إيمانهم بالمسيح. الذي يقتل يسمي شهيدا, لكن الذي يشهد أو يعترف باسم المسيح, ولكن يبقي حيا لأسباب تتصل إما بالحاكم أو بتدخل من الله في حياة هذا الشهيد فلايموت في الحال ويبقي حيا, فهذا الطراز من الشهداء يعطي في الكنيسة اسمالمعترفين ولذلك تسمعون في المجمع نقول الشهداء والمعترفين, الشهيد هو الذي سفك دمه, إنما المعترف أدي الشهادة ولكن لم يقتل, طالت حياته بتدخل إلهي فمات بعد ذلك ميتة طبيعية مثل هذا يسمي المعترف, ومن الأمثلة علي ذلك وأول مثل ممكن أن نضربه يوحنا الرسول, يوحنا الرسول في أيام الإمبراطور دوميتيانوس اضطهد وعذب لكنه لم يمت, وضعوه في خلقين من الزيت المغلي والقار,ومع ذلك خرج حيا لأن إرادة الله شاءت أن تطول حياة هذا الرسول العظيم, حتي تكون حياته لمنفعة المؤمنين.
فيوحنا الرسول عاش طويلا ومات أخيرا ميتة طبيعية, فيعد يوحنا الرسول بهذا المعني معترفا أو من بين المعترفين.
ومن بين المعترفين أيضا من الأسماء اللامعة في تاريخ كنيستنا الأنبا صموئيل صاحب دير القلمون بالقرب من مغاغة يعرف بالأنبا صموئيل المعترف, لأنه تحمل آلام الشهداء ومع ذلك لم يمت في الحال, وطالت حياته ومات ميتة طبيعية.
وفي الكنيسة يعد الشهداء أعلي مرتبة, يوضعون في المصطلح الكنسي في أسمي مرتبة, طبعا بعد العذراء لأن العذراء في كنيستنا لها مكانة خاصة, ونقول إنها فوق الكاروبيم وفوق السارافيم وهم أرقي أنواع الملائكة, لأن العذراء صارت تابوتا للمسيح ومركبة شاروبيمية جلس الرب عليها وسكن فيها, فالعذراء من بين جنس البشر تعد لها مرتبة خاصة, لأنها الملكة أم الملك فهي فوق الشاروبيم والسارافيم, بعد ذلك يأتي الشهداء باعتبار أنهم شهدوا للمسيح, وتمسكوا به ولم ينثن إيمانهم ولم يتزعزعوا, بل ثبتوا وبرهنوا علي محبتهم للمسيح, بأن قدموا حياتهم الغالية فداء من أجل المسيح فيعد الشهداء في مرتبة كبري, ولذلك في صلاة القداس الغريغوري يقول: الذين تابوا أحصهم مع مؤمنيك ومؤمنوك أحصهم مع شهدائك فيعد الشهداء في مرتبة عظيمة أو المرتبة الكبري بعد العذراء والدة الإله. وبعد ذلك المعترفين, طبعا ممكن بعض المعترفون مثل يوحنا الرسول تكون لهم صفة أخري غير هذه الصفة وهي طبعا الجهاد الرسولي الذي جاهده يوحنا الرسول.
قصدنا من هذا أن نبين شرف وكرامة الشهداء وعظمة نسبتهم إلي المسيح, وفي بعض الأحيان بعض الشهداء لايكونون نالوا العماد مثل ماكان يحدث في بعض العصور المسيحية الأولي, كان هناك بعض الناس غير المسيحيين عندما كانوا يرون بعض الشهداء العظام ومدي بسالتهم وشجاعتهم, والمعجزات التي يصنعها الله علي أيديهم فيؤمنون بالمسيح في الحال, وبعد إيمانهم يأمر الملك أو الحاكم بأن يقتلوا, فهؤلاء الناس عادة لايكونون نالوا العماد فيعتبر استشهادهم وموتهم بسفك الدم معمودية لهم, بل هي المعمودية رقم واحد لأنهم ماتوا مع المسيح, لأن المعمودية في مفهومها وجوهرها الأصيل موت مع المسيح ودفن معه, فهؤلاء قتلوا وسفكوا دمهم فماتوا مع المسيح,فتعتبر معمودية الدم المعمودية رقم واحد في الكنيسة, أما معمودية الماء والروح التي تحدث عنها المسيح له المجد فهذه هي البديل عن معمودية الدم, حتي لايموت الناس جميعا, فالروح القدس يعمل عملية إماتة في جرن المعمودية, لأن الروح القدس يدفن الطبيعة القديمة ويخلق الإنسان خليقة جديدة, الإنسان العتيق يموت بفاعليات الروح القدس الذي ينحدر بعد صلوات الكهنة علي مياه المعمودية, فيكسبها القوة الخلاقة التي تخلق الإنسان الغاطس في المعمودية خلقا جديدا, فيصبح إنسانا جديدا ومثل ما حدث في العهد القديمروح الله كان يرف علي وجه المياه وهذا الروح هو الذي خلق من المياه الكائنات البحرية مثل الأسماك والزحافات, علي نفس القاعدة روح الله ينحدر علي جرن المعمودية ويخلق من الماء طبيعة جديدة يلبسها الإنسان المعمد, ولذلك نجد في ترتيب الكنيسة أن الإنسان قبل أن يتعمد يخلع ملابسه كاملة وهذا يشار به إلي خلع الطبيعة القديمة, ثم بعد تغطيسه ثلاث مرات علي مثال موت المسيح ثلاثة أيام, ويخرج من مياه المعمودية, الرب الذي أقامه من بين الأموات لأنه مات في جرن المعمودية ماتت طبيعته القديمة, بعد ذلك يلبس ملابس بيضاء جديدة إشارة إلي الطبيعة الجديدة التي أخذها في المعمودية, فالروح القدس ينحدر علي مياه المعمودية فيخلق الإنسان خلقا جديدا ويعطيه الطبيعة الجديدة,أنتم الذين قد اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح فيصير الإنسان جديدا, ومن هنا فإن المعمودية هي الميلاد الثاني, أعود وأقول المعمودية بالماء والروح هي البديل عن معمودية الدم, الله لا يشاء أن يميت الجميع إلا إذا رغب هؤلاء الناس أن يموتوا من أجل المسيح في مواقف الاستشهاد, ولكن بالنسبة للبقية الباقية رسم الله سر المعمودية, وجعل أن الروح القدس له القدرة علي أن يغير الطبيعة من دون حاجة إلي موت طبيعي وأن نموت موتا حقيقيا بتغير الطبيعة ونلبس طبيعة جديدة ففيه هنا عملية موت مع المسيح, لذلك تعتبر الشهادة من أجل المسيح المعمودية رقم واحد لأنها تعتبر موتا مع المسيح فعلا, وبهذا نجيب علي سؤال الناس الذين يسألون ويقولون:يوجد عدد كبير جدا من الشهداء كان يموت ولم يكن عنده وقت للمعمودية, لأنه كان يؤمن ثم يقتل مباشرة, فإجابة علي هذا السؤال نقول إنهم قد تعمدوا بالدم وهي المعمودية رقم واحد.
كل هذا يرينا إلي أي مدي الكنيسة تضع الشهداء في المرتبة الثانية لماذا؟ لأنهم برهنوا علي الحب, والمسيح له المجد قال:ليس حب أعظم من هذا أن يموت أحد لأجل أحبائه فأقصي غاية هي الحب.
فالشهداء بموتهم برهنوا علي الحب, المسيح قال أيضاالذي يحب كثيرا يغفر له كثيرا والذي يحب قليلا يغفر له قليلافهؤلاء الشهداء أحبوا الله كثيرا وليس حب أعظم من هذا أن يموت أحد لأجل أحبائه. كما مات المسيح من أجلنا وبموته فنحن نحبه لأنه أحبنا هو أولا. فالشهداء ردوا الجميل, ردوا هذا الحب, وحبهم ظهر حقيقيا وصادقا لأنهم كانوا متمسكين وثابتين وراسخين ولم يخافوا, ولذلك بهذا التمسك وبهذه الأمانة وبهذا الصدق في الحب برهنوا علي أنهم جديرون علي أن تغفر خطاياهم من أجل المحبة التي أظهروها من أجل اسمه المبارك.
لكن أنتم تعلمون أنه لابد أن يكون الاستشهاد من أجل المسيح له ضرورة داعية, الموت من دون أن تكون له ضرورة داعية يكون نوعا من الإسراف في الحياة بغير تبصر بالنتائج, وجائز يكون معناه نوعا من الانتحار, والانتحار خطيئة لأنه إسراف في الحياة من دون ثمن وهذه خسارة, وليس للإنسان سلطان علي أن يقدم حياته اعتباطا ومن غير ثمن, لابد أن يكون لحياتك ثمن لأن حياتك ثمينة, ثم حياتك من الله فلايمكن أن تفرط ولايسمح الله لك أن تفرط في حياتك من غير داع ومن غير ضرورة, وإذا فرطت في حياتك لاتظن أن هذا نوعا من الاستشهاد, ربما يكون نوعا من الانتحار, ولذلك بولس الرسول يقول:لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدا ولكن أن أبقي في الجسد هذا لازم لكم أنا أشتهي أن أنطلق وأكون مع المسيح, هذا الانطلاق حسن لي, أفضل لي من البقاء علي الأرض, ولكن لا أقدر أن أرمي حياتي إلا إذا كانت هناك ضرورة, في موقف آخر قاللأني مستعد ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع, ومرة أخري قال إن حياتي ليست ثمينة عندي بإزاء المجد الأسني, بإزاء الجعالة العظمي, بإزاء الغرض السامي والهدف الكبير الذي من أجله أقدم حياتي, لكن حياتي ثمينة في ذاتها كإنسان خلق علي صورة الله ومثاله, فأنا لا أبدد حياتي, وإلا يعد المنتحر شهيدا وهذا غير صحيح, المنتحر قاتل نفس, الإنسان الذي يبدد صحته في التدخين أو في الخمر والمسكرات, أو في أي نوع من المكيفات الضارة أو المأكولات الضارة أو إهلاك الجسد من أي نوع, هذا تبديد للطاقة وهذه خطيئة, إنما المسيح قال:من أهلك نفسه من أجلي يجدها, هنا إهلاك النفس من أجل الله, في هذه الحالة يعد تقديم الحياة ذبيحة يعد قربانا, يعد عملا كريما يعد استشهادا, إنما تبديد الطاقة وإتلافها من أجل الشهوات ومن أجل النزوات الطائشة, إتلاف القوة الحقيقية في الشباب, في الفساد وسيرة النجاسة هذه خطيئة, من يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يجدها.
إذن ليس الاستشهاد نوعا من إتلاف الحياة من غير معني, وأنا أقول هذا الكلام أرد أيضا علي بعض الكتاب والمؤلفين الذين كتبوا عن عصور الاستشهاد المسيحي من بعض غير المسيحيين, الذين حاولوا أن يشوهوا حركة الاستشهاد علي أنها حركة انتحار. لا...معلوماتهم ناقصة لأن الشهداء الذين ماتوا من أجل المسيح كانوا يقدروا قيمة الحياة, وكانت حياتهم لها قيمة, فلم يكونوا تعابي من الحياة ولامتمردين عليها حتي أنهم يلجأون إلي الاستشهاد كنوع من الانتحار, ولكن لجوءهم إلي الاستشهاد كنوع من أنواع البطولة من أجل الإيمان, من يريد الانتحار من السهل عليه الانتحار بأقصر الوسائط, إنما الشهداء كانوا يتعرضوا لتعذيبات, وهذه التعذيبات كانت تجعل الإنسان العادي ينفر منها بطبيعته ويهرب منها بطبيعته. وإذا كانت الحياة معروضة عليه من قبل الحاكم والوالي مع الإغراءات والعروض السخية إذن لماذا ينتحر, فهذه فرصة طيبة أن يخضع لرأي الملك أو الوالي أو الحاكم, ويترتب علي هذا الخضوع أن ينال الحظوة لدي الملك وينال الترقيات في الدرجات, وينال المال, وبعضهم كان يعرض عليهم الزواج من أميرة أو من ملكة كما عرض علي مارجرجس وعدد من القديسين مثل أبي سيفين, بعض الشهداء عرضت عليهم عروض سخية أن يرفعوا إلي أعلي المراتب العسكرية, عرضت عليهم الأموال, عرض عليهم العقار, عرضت عليهم الكرامة والألقاب فرفضوا وذلك تمسكا بإيمانهم, استمساكا بعقيدتهم ثباتا علي أمانتهم للمسيح, وفاء وإخلاصا لسيدهم لأنهم كانوا محملقين ومتطلعين إليه ويريدون أن يثبتوا محبتهم له وأمانتهم لاسمه, من أجل ذلك أقبلوا علي الشهادة علي الرغم مما لحقهم من خسائر وأيضا من دروب التعذيب ودروب الآلام.