الميلاد مغارة ونجم وشجرة.
المغارة تذكّرنا بتجسّد كلمة الله، كما روى لوقا في إنجيله. وفي آن تقدّم لنا أمثلة نقتدي بها، كالتواضع والفقر، وهما نهجان سلكهما المسيح الرب بدافع من محبته للبشر، وتدعونا لنتحوّل من الداخل بنعمة الذي دخل إنسانيتنا. "فابن الله، يقول القديس لاون الكبير، اتّحد بنا، ووحّدنا معه، بحيث ان انحناءة الله الى حالتنا البشرية ترتفع بالإنسان إلى أعالي الله"(عظة الميلاد،27/2).
ما أحوجنا الى محبة الله تسكن قلوبنا مع الميلاد، كما سكنت قلب أمّه العذراء مريم، وقلوب القديسين! ما أحوجنا الى محبة تغنينا بالمشاعر الإنسانية وبالأخلاقية في التعاطي والتخاطب، لكي نعيش جمال الشركة والمحبة في العائلة الدموية الصغيرة، وفي العائلة الإجتماعية، وفي العائلة الوطنية. الشركة هي أوّلاً وفي الاساس إتّحاد بالله، على المستوى الروحي الملتزم، ووحدة مع جميع الناس، على مستوى العلاقات حيث يقدّم كلّ فرد وجماعة وكلّ مكوّن من مكونات المجتمع، قيمته المضافة، فينشأ مجتمع متنوّع ومتكامل. أمّا المحبة فهي رباط هذه الشركة ومصدرها وغايتها.
وما أحوجنا إلى التواضع امام الله والناس، لكي نستطيع الخروج من ظلمة الكبرياء والعجب بالذات؛ من ظلمة الإدّعاء والاكتفاء الذّاتي؛ ومن ظلمة رفض الآخر المختلف في رأيه وتطلّعاته، من ظلمة الاستقواء والاستعلاء!
ما أحوجنا الى فضيلة الفقر من الذات والإغتناء بالله، الفقر الظاهر في التجرّد من المصالح الذاتية والمكاسب المادّية الشخصية والفئوية على حساب الصالح العام. هذه الفضيلة يحتاج إليها كلّ مسؤول، الذي بدونها يصبح أضعف الضعفاء.
4. والميلاد نجم هو "كلمة الله الذي صار بشراً" (يو1: 14)، والذي دخل في حوار دائم مع كل إنسان لينيره على دروب الحياة، ويكشف له تألّق الحقيقة في ظلمات الضياع والكذب. هذا النجم قاد المجوس الى المسيح المولود. عندما غاب عنهم فوق اورشليم راحوا يبحثون منطقياً عن هذا الملك الجديد في القصر الملكي، حيث القدرة والثقافة والعلم. فلم يولد هناك. ذلك أنّ الله لا يظهر في قوّة هذا العالم، قوّة المال، وقوّة السلاح، وقوّة السلطة. لكن كلمة الكتب المقدسة أعلمتهم أنّه يولد في بيت لحم، وظهرت هذه الكلمة من جديد في النجم الذي قادهم الى مكان ولادته بين الفقراء والمتواضعين. هناك وُلد ملك العالم، للدلالة أن ملوكيته حرية ومحبة. فلا يولد هذا الملك إلا في قلوب الأحرار حقاً أي الأحرار من ذواتهم ونزواتهم وانحرافاتهم ومغريات الدنيا، وفي قلوب الذين يحبون الله حقاً وكلّ إنسان. هؤلاء وحدهم يحترمون الحرية بكلّ أبعادها، ويشهدون للمحبة في أعمالهم وممارسة مسؤولياتهم. تعالوا، أيّها الإخوة والأخوات، لنبحث عن النجم في كلمة الله التي نصبت خيمتها في الكنيسة وجعلتها "عمود الحقّ" على ما قال بولس الرسول (1تيم3/15).
5. والميلاد شجرة مزيّنة ومضيئة، هي الكنيسة المتلألئة بنور المسيح مؤسّسها والحال فيها، بل هي سرّه. إنّها المسيح الكلّي. هكذا رآها يوحنا الرسول: "مدينة مقدسة، اورشليم الجديدة، النازلة من السماء من عند الله، المهيّأة والمزينة كالعروس لعريسها، لتكون أرضاً جديدة وسماءً جديدة" (رؤيا21: 1-2)، يعيش عليها الناس في الشركة والمحبة: عموديّاً، إتّحاداً بالله عبر الكلمة الإلهية والصلاة ونعمة الأسرار؛ وأفقياً، وحدةً فيما بين الجميع بالتضامن والترابط والتعاون والتكامل.
شجرة الميلاد المتلألئة بأضوائها هي وجه الكنيسة الذي يعكس المسيح نور الأمم، من خلال إعلان إنجيله، بشرى الفرح لجميع الناس. فإنجيله نور الحقيقة للعقول، ونور النعمة الشافية للنفوس، ونور المحبة المحيية للقلوب. هذه الكنيسة المتلألئة، مثل شجرة الميلاد، مؤتمنة من سيدها على إعلان إنجيله للخليقة كلّها (مر16: 15)، هذا الإنجيل الذي زيّن الكنيسة بالقديسين، أنبياءٍ وشهداء ومعترفين. تعالوا أيّها المسيحيون نزيّن الكنيسة بتنوّع المواهب والعطايا التي أغدقها الروح القدس علينا، وعلى كلّ إنسان، لنكون قيمة مضافة في مجتمعاتنا.