ثورة البنات" مقال جرنال التحرير - الأحد 4 سبتمبر 2011
الحكاية من غير مقدّمات إن بناتنا اللي بالملايين، البنات اللي محتاجينهم كلّهم عشان نصلّح البلد دي، البنات اللي حيبقوا بُكره أمّهات الأجيال المطلوب منها تبني مصر أحلى بكتير؛ مقهورين ومحبوسين ومعدودة عليهم أنفاسهم ومحسوبة عليهم خطاويهم ويَكتُب عن أيمانِهم وشمائلِهم ألفُ رقيبٍ وعتيد. لحد ما بقوا بيتصرّفوا فعلًا زي المساجين.
محبوسة البنت في مصر بذلك القيد القديم الصّدِيء "خايفين عليها"، "يا جماعة البنت مُكبّلة بالأغلال مش عارفة تتنفّس" أصلنا خايفين عليها. "اللي عايز يعمل حاجة بيعملها المهم التربية كانت ازاي"، لأ خايفين عليها. "يا قَوم دي بني آدمة مش سمكة زينة" مافيش فايدة، مقهورة البنات بإسم الخوف عليهن. خوف مفهوم وشرعي وحنون آه بس مش مُتَفَهِّم! فيه مشكلة كبيرة بتتخلق من وراه ولازم تتحل.
الهوس بتغطية البنت خلق ذلك التصوّر المزعوم إنّها "مصّاصة"؛ لو مش متغطية حيتلم عليها الدبّان، فنغطّيها بلِبسها وبحَبسها كمان إن أمكن..
مقهورة مش يعني ماتقدرش ترجع البيت بعد معاد معيّن، ده طرف الحبل بس؛ مقهورة يعني بتُملَى عليها أفعالها كلّها لمجرّد إنّها بنت. البيت المصري بيحاول يُملي عالولد كمان أفعاله بس بنسبة نجاح أقل بكتير؛ أغلب الولاد بيعرفوا يتصرّفوا وبيلاقوا طريقة –سواء سلمية أو لأ- إنّهم ياخدوا قراراتهم بنفسهم. لكن أغلب البنات مش مسموحلهم حتّى يعوزوا يبقوا أحرار.
حرية البنات بتترجم من زمان في أذهاننا إلى حرية الإنحلال! اي حد تقولّه بنت متحررة يفهم كلامك فَهم جنسي علطول، إحنا عمومًا يعني موضوع البنات بالنسبالنا كلّه موضوع جنسي، بس حتّى الحرية! حريّة البني آدم؟!.. إيه مصدر تصوّر إن البنت -ومن قبلها الولد حتّى- أول ما تتاح ليهم الفرصة حيعملوا كل الحاجات الغلط؟ حيرموا كل اللي خدوه من ثقافتهم من الشباك ويمشوا على حَلّ شعرهم؟ ليه سوء النية ده؟ وخصوصا انه مغزاه ان عملية تربية البنت دي باءت بفشل كامل، كل اللي أنتجته بني آدمة لو خدت الفرصة، حتعمل كل حاجة غلط! فنربطها بحبل لحد ما نسلّم الحبل للّي حييجي يتجوزها. لو دي الحقيقة يبقى خلّوها تعمل أي حاجة مش فارقة! لو مابتتصرّفش بقناعتها وإرادتها وقرارها هيّ، يبقى فعلًا مش فارقة.
أنا مش بتكلّم عن بنات أطفال ولا مراهقات وعايزلُهم أنا ثورة يتحرّروا فيها من قيودهم، بتكلّم عن بنات عندهم 21 و25 و40 سنة كمان، وأهاليهم بيعاملوهم بنفس الطريقة طول عمرهم! بسهولة تلاقي ست محترمة كده ذات أربعين ربيعًا، وابنها شَحط عنده 15 سنة وأهلها بيعاملوها معاملة القُصّر الأطفال عشان إتطلّقت وعايشة معاهم!
كتير من إستضعاف البنت في المجتمعات الشرقية بييجي من فكرة إنها ساذجة وماعندهاش تجربة فممكن حد يضحك عليها (طبعًا جنسيا برضه؛ مافيش حاجة تانية مهمّة) طب ما هي ماعندهاش خبرة وساذجة عشان انتو خلّيتوها كده! (ده لو هي كده فعلًا!). مش انتو اللي حابسينها زي القطة ومغطّيينها زي المصّاصة وبتاخدولها قراراتها زي الأطفال؟؛ تتعلّم إيه، تشتغل إيه، مين يبقوا اصحابها، تحب مين، تتجوّز مين، تعيش فين، كلّه؛ "إحنا أهلك وبنحبّك ونعرف مصلحتك فتسمعي كلامنا". طب إفرضوا انتو فاهمين غلط؟ إفرضوا خدتولي قرار حَندم عليه بقية حياتي؟ إفرضوا انا عايزة ابقى مسئولة عن نفسي، أتعلّم وافهم واجرّب؟ إفرضوا عايزة أكون بني آدمة عادي يعني، مش لحمة ومش مصّاصة، يبقى إيه؟
تخيّلوا معايا كده أي بنت من اللي عمّالين يتلقوا الأوامر عن اليمين وعن الشمال طيلة أعمارهُم دول، راحت باصّة لباباها وهو بيقولّها إعملي كذا أو ماتعمليش كذا وقالتلُه "أنا آسفة إننا بنشوف الحاجات بطريقة مختلفة، بس أنا لازم أعمل كذا عشان ده اللي انا مقتنعة بيه؛ دي حياتي أنا وانا اللي لازم آخد فيها كل قراراتي؛ عشان اتعلم، عشان اتحمّل مسئوليّاتي بثقة، أدفَع تمن أخطائي بشجاعة، واتقبّل قدري برضا". لو قالت البنت كده حيردّوا عليها يقولوا إيه؟ ممكن يزعّقوا طبعًا، يُنندّدوا بوقاحتها، يضربوها حتّى في بعض الثقافات، لكن مش حيعرفوا يقولولها كلام بجد. حيقولولها أصل انت لحمة فبنخبّيكي؟ مصّاصة فبنغطيكي؟ حيقولولها إيه! ولو سألتهم أمّال أنا أصلًا ربّنا حيحاسبني على إيه لو مش انا اللي خدت ولا قرار في حياتي؟! لو نجحت حَفرح بإيه؟ لو فشلت حَندم على إيه؟ حيردّوا عالأسئلة دي ازّاي؟ حيفهّموها الفرق بينها وبين حيوان الأسرة الأليف إزّاي؟
أنا مابتكلّمش عمّا لا أعلم على فكرة، بل عمّا أعرف يقينا من مئات الرسايل اللي بتجيلي تحكي نفس قصة البنت اللي سواء لأسباب مادية أو غيرُه عايشة مع أهلها، بس حاسّة إنّها مسجونة ومخنوقة وضميرها دايمًا مأنّبها لإنّها رافضة واقعها؛ عايزة ببساطة تعيش حياتها بطريقة ما مش عاجباهم، فتبقى لازم تمشي على مزاجهم وإلّا تبقى بنت عاقّة، مش مقدّرة كل اللي ضحّوا بيه عشانها! ده سلب للإرادة وسرقة للحياة متنكّرين في صورة أبوّة وأمومة واحتضان.
البنت في ثقافتنا شغلتها الأساسية انّها ترضي جمهورها اللي بيراقبها طول الوقت ودايمًا متوقّع منها أداء معيّن بل وجُمَل حوار معيّنة؛ ومش من حقّها تغيّر في النَّص حاجة. فبالرغم من شعورها الزائف إنّها بطلة لإن الكُل باصص عليها طول الوقت؛ إلّا إنّها مش بطلة قصّتها أبدًا -إلّا من رحم ربّي منهنّ-؛ كل اللي حواليها هُمّ أبطال قصتها؛ هيّ دايمًا بتلعب دور تاني.
أنا مش حدّي حد نصايح؛ أنا عندي بنت، ومن يوم ما جت عاليا الدنيا وانا بفكّر إني مش عايز أبدًا أخنقها واغطّيها واحبسها؛ عايز أعلّمها تبقى بني آدمة عندها مبادئ وأخلاق، وفرصة تتصرّف بيهم! مش عايز أبدًا أضطرّها تكذب عليّ. مش عايز أبدًا أعاملها على إنّها ناقصة؛ مش حبُصّ لبنتي اللي بحبّها كل الحب ده في عينيها واقولّها أبوكي شايفك ماتعرفيش تاخدي قرار، شايفك مابتفهميش حاجة، أبوكي مابيثقش فيكي. مش حَعمل كده.
عايز أعلّم بنتي اللي انا أعرفه واسيبها للدنيا تعلّمها الباقي. عايزها تفتكر إنّي الأب اللي سمحلها تتعلّم، مش الأب اللي عمل نفسه عارف كل حاجة فحرمها من حياتها مُعتقدًا انه كده بيحبّها.
أوّل ما الاقيها كبرت؛ إتربّت وسمعت وشافت، حجيبها واقولّها أنا إتغيّرت شغلانتي في حياتك، حفضل ابوكي برضه، بس مش حقولّك تعملي إيه وماتعمليش إيه؛ لو عايزة رأيي إسمعيه، وانت حرة تاخدي بيه أو لأ. حتّى لو عملتي حاجة تزعّلني، حَزعل منّك بس مش حجبُرِك على عكسها؛ حياتك ماحدّش خدها منّك عشان يدّيهالك، هي أصلًا بتاعتك. هُمّ كلمتين: اللي ياكل على ضرسه بينفع نفسه؛ حضن كبير، بوسة عظيمة، تورتة صغيّرة في إحتفال عائلي لصيق، وحفهّم بنتي إنّها ممكن تعيش في حضني زي ماهي عايزة، ودُنيتها تفضل بتاعتها، تعيشها زي ماهيّ عايزة.
عايز بنتي، تبقى بطلة قصّتها.
أحمد العسيلي