القدّيس الشهيد يعقوب الفارسي المقطَّع (القرن الخامس)
وُلِدَ يعقوب في بلاد فارس ونشأ في عائلة مسيحية ثريّة من فئة النبلاء امتازت بالكرم والضيافة. كان يعقوب دمثَ الأخلاق وديعاً غيوراً على خدمة الناس وقد تلّقى قسطاً وافراً من علوم عصره. ارتبطَ بصداقة حميمة بالشاه الفارسي يزدجرد الأوّل (399- 425). وقد أسبغَ عليه هذا الأخير امتيازات عديدة فبات كبار القوم وأهل القصر هم أجوائه وصحبته. وكان لذلك أثر كبير عليه فأصبح سكير المقامات والأمجاد العالمية. حينها كانت المسيحيّة في بلاد فارس مرذولة ومُضطهدَة، لا سيّما بعدما عمَدَ أسقف المدائن، الشهيد عبدا، إلى إحراق معبد الشمس حيث اعتادَ يزدجرد الأول تقديم ذبائحه (411م). فكان على يعقوب أن يختار بين إيمانه بالربّ يسوع والحظوة لدى الشاه، فاختار امتيازات هذا الدهر وأمجاده وبات شريك الشاه في عبادة الأوثان. بلَغَ المسيحييّن خبر سقوط يعقوب فكان له وقع الصاعقة عليهم، لاسيما وأنّ يعقوب أحد أعمدتهم. كما أنّ والدته وزوجته أبلغاه أنّهما يقطعان كل علاقة لهما به لأنّه آثرَ المجد الدنيوي على محبة المسيح ووعد الحياة الأبدية. وقيلَ أنّهما وجّهتا إليه رسالة وربما تكون من رعية المسيحييّن جاء فيها: «عار على مَن هو مثلكَ، رفيع في الحَسَب والنَسَب والإيمان، أن يسقطَ في جبّ الضلال العالمي طمعاً في أمجادٍ تافهة مُزيّفة. من المؤسف كلّ الأسَف أن تؤثر الملك الأرضي على الملك السماوي، ملك الملوك وربّ الأرباب. ماذا نقول فيكَ يا مُستحق النوح والبكاء والشفقة؟ إنّنا ننوح من القلب ودموعنا تتساقط غزيرة حُزناً على صنيعكَ الممقوت. لكنّنا نضرَع إلى الربّ أن يفتح عينيكَ المُغمضتين وأن يُلقي بنوره الإلهي في صدرك كي تعود عن غيّكَ وضلالكَ. حاول أن تدرك الخطيئة العظيمة التي وقعتَ فيها. فكّر في أنّكَ كنتَ ابناً للنور فأصبحتَ ابناً لجهنم. لا تفوِت فرصة خلاصكَ، ولا تؤجل عمل التوبة. مدَّ إلى العليّ يدَ التضرع والانسحاق. عُد إلى رشدكَ وصوابكَ فيعود فرحنا بكَ. ولا تنسَ أنّ إصراركَ على ما أنتَ فيه سيجعل بينكَ وبيننا قطيعة». أفاقَ يعقوب من سكره وندم ندامةً كبيرة على ما فعلَ وأصبح كلّ همّه أن يمحو خيانته لربّ السماوات والأرض مهما كلّفه ذلكَ. جاهرَ بإيمانه بالربّ يسوع ونبذَ الأوثان ولم يترك مناسبة إلاّ وأظهرَ فيها إيمانه حتى بلغَ أمره الشاه نفسه فاستدعاه وسأله عن حقيقة الأمر فاعترف ولم ينكر. حاولَ الشاه إغراءه بالمناصب والمال والأمجاد فلم يُبال. ذكرّه بالشباب وحلاوة وملذات الدنيا فلم يتزحزح. هدّده فلم يكترث. إذ ذاك خرج الشاه عن طوره وأسلمه في غضب شديد إلى التعذيب وأمرَ بإنزال أقسى وأصعب أنواع التعذيب بيعقوب وهو: تقطيعه قطعة قطعة حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. وأراد الشاه دعوة المدينة كلّها لحضور هذا المشهد المريع. ولمّا حانت الساعة بدا بعض الناس حزانىَ باكين، فقال فيهم يعقوب: «لا تبكوا عليَّ أيها البائسون ابكوا أنفسكم وشهواتكم وملّذاتكم. سأتوجع قليلاً ثمّ ينتهي كلّ شيء، أما أنتم فمصيركم هنا غير مضمون». وبدأ الجلاّدون بتنفيذ الحكم فقطعوا أصابع يديه ورجليه ثم ذراعيه وساقيه وأخيراً قطع الجلاّد رأسه فأكملَ يعقوب الشهادة أمانةً وتكفيراً. وقد جاءَ في التراث أنّه عندما قطعَ الجلاّد إبهامه قالَ: «هكذا تُقلَّم الكرمة لكي تنمو جديداً في أوانها». وعندما قطعَ إصبعه الثاني قالَ: «تقبَّل يا ربَ الغصن الثاني من زرعكَ»، وعندَ الخامس قال: «ليتَ فرحي يكون عظيماً كفرح العذارى الخمس العاقلات»، وهكذا إلى أن وصلَ إلى آخر أصبع من أصابعه فقال: «أرتّل لكَ، يا ربّ على عود ذي عشرة أوتار وأبارككَ لأنّكَ أهّلتني لاحتمال قطع أصابع يديّ الاثنتين من أجلِ وصاياك العشر المكتوبة على ألواح الحجر». كان استشهاد يعقوب في مدينة بابل على نهر الفرات وقيلَ أنّه كان يوم جمعة. وقد تمكّن بعض الأتقياء من سرقة الجثمان ولملمة الأطراف ونقل الهامة لتوارى الثرى بإكرام وخشوع. إنّ رُفات القدّيس موزعة في أكثر من موضع في العالم، فالهامة في روما وبعض من عظامه في بلاد البرتغال حيث يُحتفل بعيده في اليوم الثاني والعشرين من شهر أيار كما يوجد في أديرة وكنائس مصر بعض من رفاته. تجدر الإشارة إلى أنّ العديد من الكنائس والأديرة عندنا، لا سيما في شمالي لبنان يتّخذ القدّيس يعقوب شفيعاً. والكنيسة المقدّسة تُنشد له في صلاة السحَر في عيده: «تأملوا العجب والجهاد الغريب ليعقوب الشهيد الّذي تألّق إلينا من فارس كمثل النجم الّذي سبق أن ظهرَ للمجوس، مُرشداً إياهم إلى المعرفة الحقيقيّة. لأنّ هذا الشجاع بسقوطه أسقطَ الأعداء وبتقطيع أوصاله أضنىَ المغتصبين». تعيّد له الكنيسة في الشرق في اليوم السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني. فبشفاعته أيها الربّ يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلّصنا.