العرف الدستوري بين رهينة التفسير ومساوئ التطبيق
جريدة الأنباء - منذ 4 دقيقة من نشره هنا
بداية، وقبل الخوض في شرح أو تعريف العرف الدستوري، نود أن نبين ما هو العرف عموما كاصطلاح قانوني، فقد ذكر فقهاء القانون مفهوما للعرف بأنه اعتياد الناس على اتخاذ سلوك معين في موضوع معين بصورة مستمرة ولمدة من الزمن مما يجعل الناس يشعرون بأنهم ملزمون باتباع ذلك العرف في نفس الموضوع.
فالعادة إذن هي اعتياد الناس على سلوك معين في مسألة معينة دون أن يأخذ لديهم ذلك الاعتياد صفة الإلزام.. فهم في اعتيادهم لا يشعرون بأنهم ملزمون باتباع تلك العادة.
أما العرف فيزيد على الاعتياد بشعور الإلزام.. وهو شعور نفسي يجعل الشخص يحس بأنه كلما تحققت الوقائع التي اعتاد على اتخاذ سلوك معين بشأنها وجب عليه اتخاذ نفس السلوك السابق وهنا تصير تلك العادة عرفا.
ومتى توافر الشرطان السابقان أصبحت العادة عرفا قانونيا، يحكم القاضي به عند عدم توافر نص.. شأنه شأن آراء فقهاء القانون وأحكام القضاء التي استقرت عليها المحاكم التي تعد بمنزلة قاعدة قانونية عند خلو النص.
من التعريف السابق يتبين أنه لكي يتم الحديث عن العرف لابد أن يتوافر شرطان في السلوك الذي يتخذه الناس بشأن واقعة معينة ويصير بالنسبة لهما عرفا، وهما: مادي وهو اعتياد الأفراد على نهج سلوك معين في تصرفاتهم بصفة مستمرة بشأن واقعة معينة، وركن معنوي: وهو الإحساس أو الشعور بأن ذلك السلوك أصبح ملزما لهم وعدم توافر الركن المعنوي يحيل العرف إلى مجرد عادة لا تحمل صفة الإلزام ويشترط في العرف أن يكون عاما وثابتا، وألا يخالف القانون المنظم من قبل سلطات الدولة كما يشترط فيه ألا يخالف النظام العام أو الآداب.
فعلى سبيل المثال مهما اعتاد الناس على أكل لحوم الحيوانات فلن ترقى تلك العادة لدرجة العرف القانوني لمخالفتها للشريعة الإسلامية التي هي مصدر بل المصدر الرئيسي للتشريع في البلاد الإسلامية.
ولا يختلف العرف الدستوري كثيرا عن العرف القانوني العادي سوى في المصدر فإن كان مصدر العرف العادي هو الجماعة فالعرف الدستوري تصدره إحدى السلطات السياسية في الدولة كالسلطة التشريعية ـ البرلمان ـ أو رئيس الدولة، وهو بذلك أكثر عمومية من العرف العادي فيشمل جميع أرجاء الدولة، بينما قد يقتصر العرف العادي على إقليم دون غيره من أقاليم الدولة وقد يختلف العرف المتبع في مسألة معينة من منطقة لأخرى، هذه القاعدة غير المكتوبة التي استقرت سلطات الدولة على اتباعها وتقررت بمقتضى العمل والقواعد الدستورية أصبحت عرضة للانتهاك والتأويل.
فهو في نظر الفقه قاعدة قانونية غير مدونة أو مكتوبة تعالج ما لم يتداركه المشرع الدستوري أو ما لم يعالجه المشرع الدستوري لتسد الفراغ الدستوري القائم.. وتتبع السلطات السياسية تلك العادة دون اعتراض باقي السلطات حتى يتوافر الشعور باحترام وإلزامية تلك العادة الدستورية فتصبح عرفا دستوريا.
وهناك أيضا شرط بديهي في العرف الدستوري وهو ألا يخالف النص الدستوري المكتوب ومن أمثلة العرف الدستوري ذلك المتبع في جمهورية مصر العربية من أن الأغلبية بالبرلمان هي التي تتولى مهمة تشكيل الحكومة عرفا، ولكن هل سيستمر وهل كان مطبقا فعليا. وإذ خلا من تنظيم تلك المسألة الدستور وعالجها عرف دستوري اتبعته الدولة حتى صار ملزما وأصبح عرفا دستوريا.
فالعرف الدستوري متعارف عليه في فرنسا ولكن دون الإساءة في استعماله وهو كالعرف العادي قائم على ركنين: مادي ومعنوي، يتطلب قيامه توافرهما معا.
والعرف الدستوري حينما وجد كان الغرض منه سد النقص أو الفراغ الدستوري في مسألة معينة لم يتناولها دستور الدولة المكتوب، ومن أمثلته ما هو معمول به في لبنان من أن من يقوم بتشكيل الحكومة هو الحزب أو الأحزاب السياسية الذي تحصل على أغلبية المقاعد في البرلمان اللبناني، ولكن هل هذه القاعدة كانت معمولا بها أم أنها فكرة جميله كعرف دستوري لا رقابة فيها ولا رقيب؟ لذلك وجد العرف المفسر وكان أول من أخذ به الفرنسيون. عملوا عليه وحتى كرسوه كأمر واقع ولكن شددت الرقابة وكان يهدف إلى تفسير وإيضاح نص من نصوص الدستور القائم، فيبين فقط الغموض الذي يشوب إحدى قواعد الدستور.. ولا يتدخل بخلق أو إنشاء قاعدة غير موجودة، ولا مجال للعرف المفسر إلا إذا شاب القواعد المكتوبة غموض أو إبهام، ويظل هذا التفسير متبعا حتى يكتسب صفة الإلزام ويصبح جزءا من الدستور المعمول به. بعد هذا الشرح القانوني نسأل هل الأعراف الدستورية كرست كأمر واقع؟ وهل يعلم البعض أن الأعراف الدستورية في فرنسا تشدد عليها الرقابة أكثر من الدساتير المكتوبة؟ وهل مجتمعاتنا العربية كرست الدساتير لحماية المجتمع أم العكس؟ كنا في فرنسا نفتخر دائما بما تضمنته دساتيرنا. بما أعطته من حريات وما كفلته من مساواة، والخوف ليس على المكتوب بل من الشيء الذي ليس مكتوبا، فالعبرة في مجتمعاتنا العربية ليس تغيير الدستور بل فهم المجتمع ما تضمنه هذا الدستور.
وفي الختام، سلام من القلب إلى حامي الدستور الذي إذا كتب التاريخ يوما على صفحاته الأولى منصفا من حمى دستورا وعزز مساواة وأرسى قواعد الديموقراطية فسيذكر وبكل عز صاحب السمو الأمير، حفظه الله ورعاه.