نداءات الميلاد
مع حدث ميلاد الكلمة الالهي انطلقت نداءات:
أ-" نور مجد الرب اشرق في قلب الليل". الطفل الالهي في المذود يشع في ظلمة الليل، لكي يشع في القلوب والعقول وفي ظلمات العالم الروحية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فيسوع المولود هو " ضياء مجد الله وصورة جوهره " ( عبرا1/3)، وسيقول عن نفسه: " انا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يجد نور الحياة" (يو8/12). انه النور بشخصه وكلامه ومثله. في ظلمة الألم والفقر والظلم واليأس والضياع والاستضعاف، ظلمات يلفها الصمت الذي يسدّ الآفاق، اشرق المسيح كلمةًَ لكل من هو في ظلمة. فهو محط الانتظارات " انه الكلمة الخارجة من الصمت" (القديس اغناطيوس الانطاكي). كلمة خلاص يعلنها الله بالملاك: " ابشركم بفرح عظيم يكون للعالم كله، لقد ولد لكم اليوم المخلص، وهو المسيح الرب!" انه "الدنح" اي ظهور الله للعيان. في كل ظلمة ليل من حياتنا يظهر الله. في صمت التأمل والانتظار يظهر الله؟ الصمت باب الشفاء، " فعالم اليوم مريض من الضجيج" (Kierkegaard). تنبأ كاتب سفر الحكمة قبل ميلاد المسيح بثلاثين سنة: " بينما كان صمت هادىء يخيّم على كل شيء، وكان الليل في منتصف سيره السريع، وثبتْ كلمتك القديرة من السماء، من العروش الملكية، كالمحارب العنيف في وسط الارض الملعونة" ( حكمة 18/14-15). انها الكلمة التي صارت بشراً (يو1/14). انها كلمة الانجيل، انجيل الخلاص. انها كلمة السلام والرجاء، كما انشد الملائكة: المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر". المسيح مجدنا، المسيح سلامنا، المسيح رجاؤنا! ينشد الناس في الميلاد الاغنية الالمانية Stille Nacht للشاعر Gruber: " ايها الليل الصامت! الكل يصمت، فقط زوجان تقيان يسهران. وانت ايها الطفل اللطيف والحبيب تنام في هذا السلام السماوي". في الصمت نسمع الله يتكلم. انه حاجة من حاجات يومنا.
ب- " اسرع الرعاة الى بيت لحم ليروا الكلمة... ولما رأوا اخبروا بالكلمة. والذين سمعوا تعجبوا من الكلمة... وعاد الرعاة يسبحون الله ويهللون" ( لو2/15-20).
الرعاة الفقراء، الصامتون، البعيدون عن ضجيج المدينة، الساهرون على ماشيتهم سمعوا الكلمة ورأوا نورها. فاسرعوا الى بيت لحم. لقد رأوا واخبروا وسبّحوا. قاموا باول ليتورجيا في العهد الجديد: حول الكلمة الالهي، يسوع المسيح الاله والانسان، بحضور يوسف ومريم. جماعة الرعاة ترى الطفل وتؤمن بالمخلص، تخبر بالكلمة وتشهد لها بالاعمال، تسبّح الله وتعود الى حقل العمل بفرح ورجاء. ليتورجيا المغارة في بيت لحم تتواصل في ليتورجيا القداس في كنائسنا. جميلة مغارة الميلاد قرب المذبح وبتواصل معه.
3. ليتورجيا الميلاد
ليتورجيا الميلاد، ككل ليتورجيا، وقفة تأمل: يوسف، المؤتمن على " السّر المكتوم في الله منذ الدهور" ( افسس3/9)، يتأمل في هذا السّر الذي بدأ يتحقق امام عينيه، سرّ مجيء ابن الله الى العالم، بما فيه من تجرّد وتحرير للعالم، ومن فقر يغني كل انسان ينفتح بالافتقار من الذات الى غنى المسيح. ويتأمل يوسف، كمستمع، في ما اخبر رعاة بيت لحم ( لو2/15-16) وما رواه مجوس المشرق ( متى2/11).
مريم، الصامتة المتأملة، " تحفظ في قلبها كل هذه الكلمات". تسجد لمن ولدت، وهي " ام خالقها"، وتستقي الحياة من الذي وضعته انساناً، وهي "ابنة ولدها" (البابا يوحنا بولس الثاني، ام الفادي،10). تتأمل في وجه من هو ثمرة بطنها، ثمرة حب الله للبشر وحب مريم له، باسم البشرية جمعاء. ما من ولد يولد لولا تبادل الحب بين والديه. بكلمة " نعم، انا امة الرب" اعطت مريم كل حبها لله، بعد ان سبق وسكبه في قلبها بالروح القدس، فأصبح الكلمة بشراً. تأملت هذا المولود منها الذي يحقق الوعد الذي قطعه الله قديماً للبشر في اعقاب خطيئة آدم وحواء. فها " نسل المرأة" يسحق رأس الحية، وينتزع الخطيئة التي القت بثقلها على تاريخ الانسان على هذه الارض ( تك3/15) ( ام الفادي،11). في ليتورجيا القداس، مريم الحاضرة قرب مائدة الكلمة وجسد الرب ودمه، تقودنا الى عمق هذا التأمل وتعيننا على عيش ما نتأمل فيه. وفي تلاوة مسبحة الوردية، مريم تكشف لنا وجه ابنها يسوع الذي يشع منه الفرح والنور، والذي يفتدي ويغفر، ويقيم الانسان من الموت ويشركه بمجد السماء.
الرعاة المنذهلون، يرون ويخبرون، و" يقدمون حملاً وضيعاً لحمل الفصح، بكراً للبكر، وذبيحاً للذبيح" (القديس افرام). وراحوا يهللون لمن رأوا فيه " راعي الرعاة".
مجوس الشرق يسيرون على هدي النجم الى من هو شمس الكون، على هدي العلم الى من هو الحكمة الالهية، من قراءة علامات الازمنة انتقلوا الى عمق الايمان، وهم من الشعب الوثني، فسجدوا له وقدموا الهدايا رموزاً: الذهب لملك الملوك، والبخور للكاهن الازلي، والمر حنوطاً للفادي الالهي الذي يموت من اجل بشرية جديدة.
ليتورجيا القداس تأوين للتجسد والفداء، وينبوع ثمارها الروحية والاجتماعية.
بالميلاد تمّ التبادل العجيب: الاله المتجسد يهبنا الوهيته، ونحن بشخص مريم ويوسف نبادله بشريتنا. الارض وهبته مغارة وهو بادلها كنيسة ومائدة خلاص. الامبراطورية قدمت له شعباً محصياً وارضاً موحَّدة وسلاماً شاملاً، وهو بادلها مملكة سماوية تعطي ممالك الارض سيادة الحق وكرامة العدل وقدسية الانسان. الرعاة هدوه حملاً من ماشيتهم، وهو بادلنا ذاته حملاً فصحياً. المجوس هدوه رموزاً، وهو بادلنا النبوءة والكهنوت والملوكية. اما قمة التبادل فهي ان " الاله صار انساناً ليؤله الانسان" (القديس امبروسيوس). ولهذا نهتف ونقول: " ولد المسيح، هللويا!".