من هى جان دارك ؟
جان دارك ... عذراءُ أورليانز نادت بالعدالة ، وناضلت من أجل استقلال بلادها وحريتها وكرامتها ! .
أثبتت المرأة ، وخلال تعاقب العصور التاريخية ، جدارتها ومكانتها من خلال مشاركتها في بناء المجتمعات الإنسانية ،
ومساهمتها في مجالات عديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية .
كما برهنت على ما عندها من طاقات وقدرات هائلة ؛ لذا فهي جديرة بالاهتمام ، ولها الحق في أن تتمتع بحقوقها دون تمييز.
هناك عدد كبير من النساء المتميزات والشهيرات ، من اللواتي أصبحن مضرب مثل على إمكانية تميّز المرأة ،
في مجالات تبدو حكراً على الرجال ، ولا سيما التضحية في سبيل الوطن ، وقيادة النضال الوطني .
ومن بينهن الشخصية الأسطورية الفرنسية ( جان دارك ) ، التي احتلت مساحة شاسعة من
صفحات التاريخ الأوروپي والإنساني ، وشغلت العالم بقدراتها العسكرية والقيادية المتميزة ،
حتى أصبحت مضرب المثل في الشجاعة وروح التضحية ، ورمز النقاوة الفرنسية . غدت شخصيتها
من أبرز الشخصيات التاريخية ، التي تتجلى فيها البطولة والجرأة ؛ إذ قادت الشعب الفرنسي ،
لتقاتل الاحتلال الأجنبي( الإنگليزي ) لبلادها .
نادت بالعدالة ، وناضلت من أجل استقلال بلادها وحريتها وكرامتها . تمردت على العادات والتقاليد ،
وعلى والديها ؛ إلا أنها وقعت ضحية نظام الحكم وأصحاب السلطة والنفوذ ، والمتسلقين في الحكم .
كان هدفها من النضال أن تكشف عن زيف الحكام وشعاراتهم الرنانة ،
هؤلاء الذين تجردوا من الرحمة والإنسانية .
كانت غايتها تعريتهم وإزالة أقنعتهم ؛ لتظهرهم على حقيقتهم . وكان هؤلاء ، أصحاب النفوذ ،
من ألد أعدائها ، وأصبحوا يخشونها ، ولا سيما عندما نالت شهرة وشعبية كبيرة بين أبناء وطنها ؛
فتحركت أحقادهم وضغائنهم ضدها ، ومن بينهم الكاردينال ( وينشستر) ، وهو من أبرز الناقمين عليها .
ولهذا دبروا لها المكائد ، لينالوا من سمعتها اجتماعياً ؛ فاتهموها بالسحر والهرطقة .
تجمع شخصيتها بين الرمز والحقيقة ؛ فهي شخصية مميزة ومتوهجة ، حساسة ، جذابة ،
ومحبوبة في فرنسا إلى حد القداسة . وبسبب تميّزها هذا؛ فقد جلبت لنفسها متاعبَ كثيرة ،
وكثر أعداؤها ، وخاصة أنها كانت من عامة الشعب . جان دارك ...
تلك الفتاة الصغيرة البسيطة ، شغلت الكتاب والمؤرخين الأوروبيين . لفتت انتباه الأديب الألماني الشهير
( فريدريش شيللر ) ، خلال مطالعته لتاريخ العصور الوسطى ؛ فكتب عنها مسرحيته التي سماها
( عذراءُ أورليانز ) ، وهي دراما رومانسية إنسانية ، لم يقصد بها أمة معينة ؛ بل عممها لكل الأمم المفككة ،
التي تسعى لمواجهة الأطماع الخارجية ، عن طريق الوحدة . إن سيرة حياة هذه ( القديسة )
تدور حول أحداث حرب المئة عام ، بين بريطانيا وفرنسا ( 1337-1453 ) ،
وانتهت بخسارة الإنكليز لكل اقطاعاتهم في فرنسا . ولدت جان دارك في عام 1412 في
قرية ( دومرمي ) ، التي كانت جزءاً من ( بريغاندي ) - الولاية المستقلة عن السلطة الفرنسية
في ذلك الوقت ، لأبٍ مزارع متوسط الحال ، اسمه ( جون دارك ) ، وأمها ( إيزابيل )
التي لقنتها التعاليم الدينية . تأخذ حياة ( جان دارك ) شكل الأسطورة ، عند بعض الفرنسيين ؛
فعندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها ، كانت تسمع أصواتاً تناديها ، وتدعوها إلى تحرير بلدها من
الاحتلال الإنكليزي ( هذا ما أشارت إليه في مذكراتها ) ؛ فلبت النداء الداخلي ، وعملت على
تجميع قوات عسكرية ، قادتها بنفسها لدحر القوات الإنكليزية ، بعد أن تنكرت بزي الرجال ! .
واستطاعت بهذه الطريقة أن تحصل على نوع من السلطة ، التي كان يصعب لامرأةٍ الوصول إليها
في تلك الفترة .كان اسمها الحقيقي ( جانيت ) ، وعندما جاءت إلى فرنسا نادوها ( جان ) .
بينما كانت مشغولة بأمر الحرب ، أبلغتها أمها أن والدها قد حلم بها أكثر من مرة ،
وهي تهرب مع مجموعة من الجند ، وأنه تحدث من إخوتها منذراً :
" لو آمنتُ بأن هذه الأحلام ستتحقق ، لطلبت منكم إغراقها ، وإذا رفضتم فسأغرقها بنفسي " ! .
وفعلاً تحقق قوله الأخير؛ لأنها أحرقت ورُميت في نهر السين .
وبسبب حلم أبيها ، تعرضت لمراقبة والديها واضطهادهما . كانت مطيعة لأوامرهما ،
إلا أنها لم تستطع أن تعصي مشيئة ربها ؛ الذي كانت تقول إنه أوحى لها بضرورة النضال
من أجل حرية واستقلال شعبها ووطنها . ولقوة إيمانها بما كانت تعتقده ؛ فقد عصت والديها ،
واستسلمت لمشيئة ما كانت تسمعه في داخلها ، وذهبت إلى عمها لتقيم عنده فترة ، ثم توجهت
إلى ( فرسولورز ) ، وقابلت قائد المدينة ( روبرت ديودريكورت ) ، وطلبت منه أن يساعدها
في السفر إلى فرنسا ، إلا أنه رفض طلبها ؛ فلجأت إلى مساعده ( جون ديميتر ) ، الذي لبى طلبها ،
واضطر ( ديودريكورت ) أن يساعدها ، وأعطاها سيفاً ، ورافقها فارس وأربعة جنود .
عند وصولها قابلت ابن الملك ، وأخبرته أنها جاءت لتحارب الإنكليز .
اختبرها العلماء مدة ثلاثة أسابيع ، وعندما تيقنوا من أنها جاءت
لتنقذ ( أورليانز ) من الاحتلال البريطاني ، ولتتويج الابن البكر للملك على العرش ،
وهبها الملك اثنا عشر ألف جندي ، قادتهم إلى أورليانز ، وكتبت رسالة إلى ملك بريطانيا ( الدوق بدفورد ) ،
قائلة : " أرسلني المتعالي ملك السماوات والأرض لطردك من أراضي فرنسا ،
التي انتهكتَ سيادتها وعثتَ فيها فساداً ...
لو أطعتني ؛ فسأرحم رجالك وأسمح لهم بالذهاب إلى ديارهم ، وستذهب المملكة إلى الملك تشارلز ،
الأحق بالإرث ... وإلا سنشعلها حرباً ضروساً لم ترَ فرنسا مثلها منذ ألف عام " .
توجهت جان دارك إلى أورليانز ، وزحفت إليها بجنودها الذين حاصروها ، واحتلوا أبراج حامية المدينة .
وأثناء تسلقها السلم ، أصيبت بسهم في حنجرتها ، لكنها لم تستسلم ؛ بل ازدادت قوة وإيماناً ،
وامتطت فرسها دون أن تأبه بجرحها وألمها ، وعادت إلى المعركة وهي تشجع الجنود بقولها :
" كونوا شجعاناً ولا تتراجعوا ، وبعد قليل سيكون النصر لكم .. هيا ... المدينة لنا " .
كانت جان دارك رحيمة عطوفة ؛ فحينما انسحب الإنگليز من المدينة ، في الخامس من أيار،
قالت لرجالها والرقة تعلو وجهها : " لا تلحقوا بهم أي ضرر ..." .
وبقيادتها أحرز الفرنسيون انتصارات باهرة ، ونجحت جان دارك في تحقيق رسالتها ،
وقادت ( تشارلز ) إلى ( ريمز ) وشاهدت تتويجه كملك لفرنسا .
تم القبض عليها حين كانت تقوم بمهمة سرية إلى مدينة ( كامبين ) ، وأسرها البرغانديون ،
عملاء الاحتلال البريطاني . اقتادوها إلى ( ريون ) وباعوها للإنكليز، بعد أن فكت الحصار البريطاني
عن مدينة اورليانز . أخبروها أنها ستحرق ، بعد أن تتعرض إلى صنوف العذاب ؛
فلم تركع ، وتذكرت صلب المسيح لتخفف وتسهّل مصابها ، وفضلت الموت السريع على الآلام
ومعاناة السجن الطويلة . حوكمت في محكمة الكنيسة بتهمة الإلحاد والهرطقة والسحر .
وصدر قرار الحكم عليها بالحرق ؛ فواجهت الحكم صامدة شامخة الرأس ، في 30 ـ 05 ـ 1431 .
قامت السلطات الإنگليزية ، وبمشاركة علماء جامعة پاريس ، التي تحكموا بها ،
بتقييدها إلى خشبةٍ وأحرقوها ، بعد أن أقتيدت إلى قاعة المحكمة وهي مكبلة بالأصفاد والحديد ،
وكان الحكم بحقها جائراً وبالغ الوحشية . قبل حرقها ، قيدوها إلى شجرة ومزقوا
جسدها وهي في عمر الورود ؛ فقالت لهم : " لو كنتُ في مكان إعدامي ، وشاهدتُ الزبانية
يشعلون النيران التي تلتهب ، حين يلقون لها بالأخشاب الجافة ، ولو كنتُ وسط اللهيب حتى آنذاك ؛
فليس لديّ ما يمكن أن أضيفه من أقوال " . وهكذا نذرت جان دارك نفسها للمهمة العسكرية ،
لرفع الحصار الإنكليزي عن مدينة ( أورليانز ) الفرنسية في عام 1429 .
وعُرفت منذ ذلك الوقت باسم ( لابوسيل أورليانز ) ، أي عذراء أورليانز .
وهبت جان دارك نفسها ، وهي لا تزال طفلة صغيرة السن، للكفاح والمقاومة ضد الإنكليز .
أذهلت العالم بقوة شخصيتها وقدراتها التي فاقت التصور، في وقت كانت القوانين جائرة بحق المرأة ؛
لهذا كان الحكم عليها قاسياً . ارتبط اسم القديسة جان دارك ليس فقط بمقاومة الاحتلال البريطاني
لمملكة فرنسا ؛ وإنما بالمقاومة النسائية في العالم . ففي عام 1450 ،
أي بعد 19 عاماً على حرقها ، أقيمت محكمة خاصة لتكريمها . ولم يتوقف التكريم عند هذا الحد ؛
بل إنه في عام 1909 ، أي بعد 450 عاماً ، تم تطويبها كمسيحية ، ولقبت جان دارك بالقديسة في عام 1920 ،
وأصبحت مصدر إلهام للعديد من المبدعين الفرنسيين والكتاب في العالم . كتبت حولها المسرحيات ،
مثل مسرحية ( عذراء أورليانز )لـ ( شيللر ) ، وأنتجت الأفلام مثل فيلم
( آلام جان دارك ) لـ (كارل ديير ) ، وأصبحت رمزاً
للمقاومة النسائية في فرنسا وفي العالم .
أصبحت جان دارك مثلاً يُحتذى به ، كبطلة فرنسية ساهمت في تحرير بلادها من الإنگليز .
المصدر / موقــع علـم الآثـــــــار .